الشاعر الألماني جوته.. جسر حضاري بين الشرق والغرب
مسيرته جوتة تعكس معنى التسامح وقيمة التبادل الثقافي والانفتاح على الآخر، سعيا للوصول لسبيكة حضارية جامعة للبشرية كلها.
في وقت يتحدث البعض عن صدام الحضارات أو الحاجة للحوار، يطل نموذج حي من قلب الثقافة الألمانية، وهو الشاعر الشهير يوهان فولفجانج فون جوته "28 أغسطس/آب 1749 - 22 مارس/آذار 1832" الذي جسد في مسيرته الإبداعية والحياتية فكرة الحوار.
وكانت مسيرة جوتة انعكاساً لمعنى التسامح وقيمة التبادل الثقافي والانفتاح على الآخر، سعياً للوصول لسبيكة حضارية جامعة للبشرية كلها، بغض النظر عن مساحات الاختلاف، الذي اعتبره إضافة لمعنى التنوع الخلاق، ولم يكن من قبيل المصادفة أن تم إطلاق اسمه من قبل الخارجية الألمانية على مراكزها الثقافية التي تعمل في عواصم العالم.
وُلد جوته في 28 أغسطس/آب عام 1749 بمدينة فرانكفورت بألمانيا، من عائلة ميسورة الحال وفرت له أفضل أنواع التعليم حتى أنهى دراسته للحقوق، ولم يكن من الصعب على عائلته أن تدرك ميوله الأدبية التي تنامت مع سنوات عمره وقادته عقب التخرج للتفرغ للأدب تفرغاً تاماً.
وباشر نشر قصائده التي وجدت ردود فعل واسعة في الأوساط الثقافية الألمانية والتي كانت تعيش ازدهاراً بالغاً في القرن الـ18 وتصنع التحول الأكبر في مسيرة الأدب العالمي من خلال التأسيس للرومانسية كحركة فنية أدبية وصلت لذروتها في الفترة ما بين 1800-1840، وكانت رد فعل ضد الثورة الصناعية والقيم الإقطاعية الأرستقراطية والمعايير الاجتماعية والسياسية في عصر التنوير، وقد تجسدت الثورة بقوة في الفنون البصرية والموسيقى والأدب.
وكان هنالك ارتباط وثيق مع الليبرالية والراديكالية، وكان تأثيرها واضحاً على نمو القومية لدى الشعوب، وعلى صعيد شخصي عاش جوته بعض تجارب الحب الأولى التي زادت من شعوره بالاغتراب عن قيم المجتمع الصناعي، ورفعت من درجة شغفه بالفلسفات الروحية بتأثر صديقة لولدته دفعته لهذا العالم الشرقي.
ويعرف دارسو سيرته كيف أعطى سنوات شبابه لدراسة العلوم الطبيعية والفلسفية انطلاقاً من إيمانه بـ"موسوعية" الشاعر الذي يحتاج لما هو أكثر من التأمل، لذلك غلبت على أشعاره الأولى سمة ذهنية، واعتمدت بصورة رئيسية على النظر في الطبيعة لكن انفتاحه على الثقافات الأخرى، لا سيما الثقافات الشرقية، منح أشعاره حساً تأملياً أقرب للتجريد بالمعنى الصوفي الشائع في الفلسفة الشرقية.
وبسبب دراسته العميقة لكل من اللاتينية، واليونانية، والإيطالية، والفرنسية، والإنجليزية والعبرية، تمكن من الاطلاع المباشر على مصادر الفكر الشرقي، ولمس على نحو مباشر القيم المعرفية والروحية فيه.
وكان اطلاعه على الفكر الإسلامي أحد أبرز المعطيات التي منحت تجربته وهجاً لم ينطفئ حتى الآن؛ حيث تشيع في كتاباته مساحات التفاعل مع النصوص الإسلامية الصوفية فيما يعرف اليوم بـ"التناص" أي تداخل النصوص؛ حيث تأثر بعدد من الشعراء مثل المتنبي، وقام بإدراج بعض من ملامح أشعاره في روايته "فاوست"، كما تأثر بأبي تمام، والمعلقات السبع فقام بترجمة عدد منها إلى اللغة الألمانية عام 1783 بمساعدة معلمه هيردر.
وبفضل روايته الأولى "جوتس فون برليخنجن"، حقق الكثير من الشهرة لدرجة أن دائرة المعارف البريطانية اعتبرتها بمثابة فتح جديد في عالم الأدب الألماني، لأنها تجاوزت الأنماط التي سعت الروايات الفرنسية لتسييدها، لكن هذه الرواية لم تصل أبداً إلى مستوى روايات جوته الأخرى مثل: "فاوست" و"ولهلم مايستر" وغيرها.
وتظل روايته الأثيرة "آلام فيرتر" واحدة من أكثر الأعمال الأدبية نجاحاً في التاريخ، وزارد من قيمتها اعتمادها على قصة غرام واقعية عاشها جوته، ففي مدينة "فتزلار" تعرف على فتاة تدعى شارلوت، أحبها كثيراً، ولكنها كانت خطيبة أحد أصدقائه، وتألم في حبه لها، فقام بتخليد هذا الحب في روايته الشهيرة "فرتر" والتي تعد واحدة من أهم رواياته وأكثرها انتشاراً.
وكان انتقال جوتة لمقاطعة "فايمار" أحد أكثر الأحداث تأثيراً في حياته، فقد تفرغ هناك للاطلاع والكتابة بسبب الدعم المباشر الذي تلقاه من الدوقة إماليا والدة الدوق، والتي كانت من المهتمين بالأدب والموسيقى، ما دفعها لتعيين جوته راعياً ومديراً لمكتبة "أنا أماليا" حتى وفاته.
وبعد دخول الفرنسيين بقيادة نابليون بونابرت واحتلال "فايمار " التقى جوته ونابليون وأبدى الأخير إعجابه الشديد بشخصيته، وقال عنه عقب انصرافه "هذا إنسان"، ومن الجانب الآخر تعاطف جوتة مع نابليون عندما بدأ نفوذه في الاضمحلال في أواخر عهده عام 1813، مما جعل البعض يشكك في وطنيته.
وتعرف العالم العربي طوال القرن الـ20 على إبداعات جوته التي وجدت اهتماماً لدى مفكرين كبار، مثل: عبدالرحمن بدوي أو مترجمين مثل عبدالغفار مكاوي ومصطفى ماهر، وبسبب هذا الاهتمام شاعت ترجمات أعماله ومنها: آلام الشاب فرتر.
ومن المسرحيات نذكر "نزوة عاشق"، "المتواطئون"، "جوتس فون برليخنجن ذو اليد الحديدية"، "كلافيجو"، "إيجمونت"، "شتيلا"، "إفيجينا في تاورس"، "توركواتو تاسو"، ومن قصائده بروميتيوس، وفاوست "وملحمة شعرية من جزأين"، المرثيات الرومانية، وسيرة ذاتية بعنوان من حياتي.. الشعر والحقيقة، وأخيراً كتاب "الرحلة الإيطالية" الذي تُرجم العام الماضي وصدر عن دار المتوسط.
ويظل كتابه "الديوان الغربي والشرقي" الذي ظهر فيه تأثره بالفكر العربي والفارسي والإسلامي، هو الأكثر شهرة في عالمنا العربي، لأن جوته كان أول شاعر أوروبي يقوم بتأليف ديوان عن الغرب والشرق مجسداً قيم التسامح والتفاهم بين الحضارتين، وطوال مسيرته أظهر احتراماً بالغاً للثقافة العربية ولغتها، إذ قال: "ربما لم يحدث في أي لغة هذا القدر من الانسجام بين الروح والكلمة والخط مثلما حدث في اللغة العربية، وإنه تناسق غريب في ظل جسد واحد".