إن الخطوة التركية بتحويل "آيا صوفيا" إلى مسجد، لن تؤدي إلا إلى زيادة نزعات التطرف والتعصب في العالم كله
لا يتوقف "سلطان تركيا" المسكون بأوهام استعادة أمجاد أجداده العثمانيين عن إثارة الجدل وخوض المعارك الحقيقية والمتوهمة في الداخل والخارج، حتى أصبح "نجم الاستعراضات الأول" بلا منازع في العالم كله.
فلم يكتف أردوغان بتصعيد تدخلاته الفجة في شؤون العديد من دول المنطقة كسوريا وليبيا والعراق، وتوسيع دائرة صداماته مع دول منطقة شرق البحر المتوسط، وتصعيد التوتر مع أوروبا، وتعزيز علاقاته مع جماعات التطرف والإرهاب التي أصبحت مكشوفة للقاصي والداني، بل قام بتفجير أزمة جديدة، عبر المسارعة إلى تحويل متحف "آيا صوفيا" إلى مسجد، بعد أن ألغت المحكمة الإدارية العليا يوم 12 يوليو الحالي المرسوم الحكومي الصادر عام 1934 القاضي بتحويل هذا المعلم التاريخي من مسجد إلى متحف.
هذه الخطوة التركية الجديدة لا يمكن فهمها إلا في ضوء ما دأبت عليه حكومة حزب العدالة والتنمية، المنتمية إلى تيار الإسلام السياسي وتنظيم الإخوان المسلمين، من سعي مستمر لتوظيف الدين لتحقيق أهداف سياسية بحتة.
فمن يتابع تعامل نظام أردوغان مع هذه القضية، يلحظ بوضوح كيف تم استغلالها للتلاعب بمشاعر الملايين من البسطاء داخل تركيا، الذين تم تصوير الأمر لهم باعتباره إعادة فتح جديد للقسطنطينية، ولاسيما مع ترافق هذا الحدث مع العديد من المشاهد الدعائية، كالتداول الواسع لعملية رفع الآذان في المسجد، وبث المقاطع المصورة لأردوغان وهو يقرأ القرآن داخله، وصعود خطيب المسجد للمنبر في أول صلاة جمعة به وهو يحمل سيفاً في يده، تجسيداً للتقاليد العثمانية القديمة، وغير ذلك من مشاهد تلعب على وتر المشاعر الدينية والتاريخ العثماني الغابر .
إن الخطوة التركية بتحويل "آيا صوفيا" إلى مسجد، لن تؤدي إلا إلى زيادة نزعات التطرف والتعصب في العالم كله، ولكنها لن تنجح في إنقاذ شعبية نظام أردوغان وشرعيته.
وعلى الرغم من أن هذا السلوك ليس جديداً على أردوغان المسكون بأوهام إعادة أمجاد إمبراطورية أجداده البائدة، فإن توقيت الحدث والبعد الدعائي الذي اقترن به يوضحان أن الهدف منه سياسي بامتياز.
ويتلخص بالرغبة في استعادة الشعبية المفقودة للرئيس أردوغان وحزبه، والتي ظهرت بوضوح في الانتخابات البلدية الأخيرة التي خسر أردوغان فيها بلديات كبرى كإسطنبول وغيرها، والتي يتوقع أن تكون تفاقمت بعد التعامل الفاشل من قبل هذا النظام مع أزمة كورونا وأزمة الاقتصاد التركي وتعدد أزماته الخارجية.
ومن ثم، فإن اللعب على هذا الوتر الديني/التاريخي يأمل معه النظام التركي استعادة بعض من شرعيته وشعبيته المفقودة.
التوظيف الأردوغاني لقضية "آيا صوفيا" لا يقتصر على الداخل وإنما يستهدف الخارج أيضاً، فمن خلال استغلال هذه القضية يسعى أردوغان إلى استقطاب ولاء مزيد من الجماعات والعناصر الدينية المتطرفة حول العالم، بل الملايين من المسلمين البسطاء الذين قد ينخدعون بهذه الدعاية التركية والإخوانية.
وبذلك يضمن أردوغان ولاء العديد من المليشيات المتطرفة التي تقاتل بتوجيه منه في العديد من الدول والمناطق، وربما تجنيد المزيد منها، بما يخدم مساعي تركيا في الهيمنة الإقليمية.
لكن خسائر أردوغان من هذه الخطوة وتداعياتها السلبية على تركيا بل العالم الإسلامي كله أكبر من أن تحصى.
فإضافة إلى موجة الغضب الدولية من هذه الخطوة والتي من شأنها أن تزيد من عزلة هذا النظام، يخشى كثيرون من أن تزيد من التعصب الديني لدى المتطرفين في الجانبين الإسلامي والمسيحي على سواء، في وقت يعاني فيه العالم بالفعل من تنامي نزعات التشدد والكراهية.
فهذا المعلم التاريخي المميز بعمارته التاريخية والفنية، والذي صنفته منظمة "اليونيسكو" ضمن مواقع التراث العالمي، ويزوره سنويا ما يقرب من أربعة ملايين شخص من مختلف أنحاء العالم، انتقل من كونه رمزاً لتجسيد قيم التسامح الديني والإنساني في تركيا والعالم إلى رمز للفرقة والكراهية الدينية.
حيث استفزت الخطوة التركية ملايين المسيحيين في العالم؛ لأن هذا المعلم بُني في الأصل ككنيسة، وظل كذلك لقرون طويلة قبل أن يحوله العثمانيون إلى مسجد بعد فتح القسطنطينية، ليأتي كمال أتاتورك ليحوله إلى متحف يجسد قيم التعايش الديني التي هدمها أردوغان.
إن الخطوة التركية بتحويل "آيا صوفيا" إلى مسجد، لن تؤدي إلا إلى زيادة نزعات التطرف والتعصب في العالم كله، ولكنها لن تنجح في إنقاذ شعبية نظام أردوغان وشرعيته، بعد أن أدخل تركيا في دائرة غير مسبوقة من الأزمات الإقليمية والداخلية، ستدفع حتماً الشعب التركي للبحث عن بديل ينقذه من كوارث هذا النظام.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة