هناك أيام في الصحافة والإعلام تتباطأ فيها الحركة وتقل الأخبار وتختفي المفاجآت، وباختصار تقل الإثارة المطلوبة لجذب القراء والمشاهدين.
مثل هذه الحالة لا تأتي كثيرا في العصر الذي نعيش فيه، أو على الأقل خلال العام الذي بدأ قبل عام عندما جرى الإعلان نهائيا عن وجود "الجائحة" أو "الوباء" حسب إعلان منظمة الصحة العالمية في ١١ من مارس ٢٠٢٠. من وقتها بات البلاء خبرا دائما في انتشاره، وفي إصاباته، وفي البحث عنه، وفي متابعة الأخبار عن اللقاح والدواء، وكيف تعاملت الدول مع هذه المصيبة الجديدة. زاد من الأمر إثارة أن ذات العام تواكب مع الانتخابات الأمريكية الذي بات المرض فيها موضوعا دائما؛ ولكن الانتخابات كانت لها خصوصيتها الخاصة التي أتت بها شخصية الرئيس دونالد ترامب الفاقعة والطاغية والتي تفرض نفسها عندما كانت مرشحة فائزة بتسمية حزبها الجمهوري، وبعد هزيمتها من خصمها الديمقراطي. الآن وبينما ترامب يراجع أوراقه فإن شخصية بايدن لا تملأ المجال، وهناك نوع من الانتظار فيما سوف يأتي به، ومع الانتظار يكون الهدوء النسبي والبحث عن موضوع لم يكن في الحسبان ويلمع فجأة في سماء التقديرات والحسابات. وحدث ذلك بالفعل قبل أسبوع، يوم الأحد الماضي السابع من مارس، عندما أذيع برنامج "أوبرا وينفري" على شبكة CBS التلفزيونية الأمريكية، والذي قامت فيه بإجراء حديث مع الأمير هنري ذو الترتيب السادس في العرش البريطاني ودوق ساسكس ، ودوقة " ساسكس " ميجان. قصة هنري أو هاري كما يدعي وميجان ليست جديدة على الاهتمام من الإعلام والرأي العام؛ والمرجح أن الاهتمام بها سوف يستمر خلال السنوات المقبلة لأن القصة الملكية عادة ما تأخذ ثلاثة مراحل كبري: الأولي تكون فيها الحكاية جميلة ورومانسية؛ والثانية يبدأ فيها الشقاق وعادة ما يكون مرة مع الأسرة الملكية البريطانية العريقة من قبل من كانوا عروسين؛ والثالثة عندما ينتهي الأمر كله بمشاهد غير محببة وقد تكون مأساوية.
جيلي وحده شهد الأمر من قبل لأكثر من مرة، وفي الستينيات من القرن الماضي كان للأميرتين "مارجريت" و"آن" قصصا شغلت العالم والرأي العام البريطاني بشدة. بشكل خاص عرف الجيل بعد ذلك قصتان بشكل خاص: الأولي عند زفاف الأمير تشارلز ولي العهد مع الأميرة ديانا حيث كان فيه من الأحلام زهور وعطر وطقوس فيها عبق أزمان مزدهرة قديمة تفوح منها تقاليد عريقة تمتزج فيها الفروسية بالعراقة. وبلغ الأمر مبلغه عندما قامت شبكة السي. إن. إن الإخبارية استعادت مرة أخرى موسيقي الفيلم "كاميلوت" حينما كان "الملك آرثر" صاحب "المائدة المستديرة" يغني للسماء سائلا إياها ألا تمطر، وأن تبقي الشمس ساطعة على حبيبته "جينفر" القادمة إليه للحب والزفاف. ما جرى بعد ذلك لم يدفع أحدا لكي يتذكر أن "جنيفر" أحبت فارس المائدة "لانسلوت"، وأن "آرثر" حطم المائدة، وأخذ سيفه "إكسكالبر" ومضي يبحث عن "الكأس المقدس" والذي منه ارتشف المسيح قطرات ماء وهو في طريق الآلام حاملا الصليب. وفي الثانية كما كان في المرة السابقة لزواج الأمير "ويليام" مع الأميرة "كيت"، كانت ذكري "آرثر" مختلطة مع الحدث في الجزء الأول من قصة "كاميلوت" التي لمن لا يعرف هي جزء هام من "الهوية البريطانية". لم يرد أحد أن يفسد اللحظة الرومانسية، ولا نقائها، ولا عبيرها، بما حدث لجينفر عندما أحبت الفارس الآخر "لانسلوت"، ولا لديانا وتشارلز، كان هناك فصلا جديدا ناصعا وساطعا بمعان نبيلة جاءت من جوف تجربة إنسانية صعبة ومعقدة لأولاد تشارلز وديانا: ويليام وهنري الملقب بهاري.
الآن جاء الدور علي الأمير هاري لكي يقيم قصته الخاصة عندما يقع في هوي الممثلة السمراء ميجان ماركل التي جاءت سمرتها من خلطة مثيرة بين السواد والبياض من أب وأم جاءا من عالمين مختلفين. القصة الجديدة كانت منسجمة تماما مع القصص القديمة حتى تلك التي بدأت بالملك إدوارد الذي ترك العرش البريطاني كله لكي يتزوج حبيبة حدث أنها كانت مطلقة وأمريكية أيضا؛ والأرجح أنها لن تنتهي بقصة هاري وميجان التي أعطت للملايين من دول العالم لحظة شبابية مفعمة بالعنفوان. لحظة الزفاف كانت تاريخية نسي مئات الملايين من البشر، وقيل مليار، أن هناك حروبا في الشرق الأوسط، وأزمة نووية في شبه الجزيرة الكورية، وبركان يقذف حمما في هاواي؛ وبات الكل يغمض عينه محاولا إمساك اللحظة لعلها تطول. الإعلام العالمي عرف كيف يستحلب الزمن، ويجعل من قصة زواج أمرا فريدا يكون فيه لكل جزئية من فستان الزفاف وحتى الشراب والطعام قصة وحكاية تستعيد ذلك الحلم الذي تتمني فيه الفتيات أن يأتي فارس علي جواد أبيض لكي يحملها إلى السعادة، فتكون أمنية كل فتي أن يكون ذلك الفارس. ليس مهما أن هاري عندما جاء يوم الزفاف كان يمتطي عربة "بورش" فذلك محض تفاصيل لا تخل من القصة الكبيرة.
الفصل الثاني من القصة جاء مع قرار الزوجين السعيدين جدا الخروج من بريطانيا كلها، والانفصال عن الأسرة المالكة بقضها وقضيضها، والذهاب أولا إلى كندا، وثانيا إلي الولايات المتحدة للاستقرار. الروايات المختلفة عن الانفصال لا تعرض بدقة عما إذا كان قد حدث بشكل قاطع، أو أن فيه بعضا من الاستمرار في الأسرة الملكية. ما نعلمه أن الدوق والدوقة، كلاهما مبتعدين عن الملكة وبقية العائلة، وفي الحديث التلفزيوني علمنا أن هناك قطيعة تليفونية بين الوالد الأمير تشارلز، والابن الثاني له من الأميرة السابقة القتيلة ديانا. والحقيقة أن الأمير هاري في حديثه مع أوبرا وينفري
قال أنه لا يريد للماضي أن يعود مرة أخرى. الماضي المشار إليه هو مصرع الأميرة ديانا في أحد أنفاق المرور في العاصمة الفرنسية باريس مع شاب من أصول مصرية: دودي الفايد. هنا تبدو القصة مركبة بعض الشيء، ففيها يوجد ما شكا منه الزوجان، وكثيرين من أعضاء الأسرة المالكة، وهو أن الإعلام و"البابارتزي" – المصورون الذين يبحثون عن صور مثيرة للبيع في الصحافة - لا يترك للأمراء فرصة لعيش حياتهم الشخصية. ولكن لب الحديث التلفزيوني يعطينا الفصل الثاني المعروف في قصص العائلة المالكة البريطانية وهو اللوم الشديد للأسرة وتقاليدها العتيقة، وعدم استجابتها للتغيير الذي يحدث في العالم ورغبة شابين في العيش لحياتهما بدرجات من الحرية. ولكن القصة بعد ذلك لها خصوصيتها الخاصة، وهو أن ميجان ماركل اتهمت العائلة المالكة أولا بالعنصرية لأن أحدا منها تساءل عما سوف يكون عليه لون "الحفيد" "آرشي" قبل ميلاده. ووصلت الدراما إلى قمتها عندما ذكرت الدوقة أنها نتيجة الضغوط الملكية راودتها فكرة الانتحار.
كما يحدث في الروايات كانت الفكرة تأخذ الدراما إلي حافة التراجيديا، وفي كل الأحوال فإنها كانت تشتبك مع الحالة البريطانية في عمومها. بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني ومهندس عملية "البريكست" للخروج من الاتحاد الأوروبي رفض التعليق على البرنامج التلفزيوني الذي شاهده ١١ مليون بريطاني كما شاهده ١٧ مليون في الولايات المتحدة. دخل الموضوع كله في علاقة غير مرئية مع الحالة البريطانية حينما ذكر جونسون أنه لا يريد التعليق علي أمر يخص الأسرة المالكة، كان التيار المحافظ يعبر عن احترامه في قضية رأي عام في لحظة لم تعد فيها "أوروبية" وإنما "بريطانية، وفي هذه الحالة من "البريكست" فإن جلال الأسرة المالكة لابد وأن يحترم. هذه هي القصة كما جرت، والمرجح أنها لن تنتهي بهذه السهولة، فبعد البرنامج سوف تأتي أمور كثيرة، فلن تتوقف الأسرة المالكة عن مفاجأتنا بقصص مثيرة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة