من تحييد محاور الإسناد إلى تحييد القيادات الوازنة في العمليات العسكرية، يمضي حزب الله بين استراتيجيتين.
فقبل أيام، طوى حزب الله صفحة حسن نصر الله. مثلما كانت بداية مرحلة نصر الله فارقة، أسست نهايته مرحلتين في تاريخ الحزب؛ عهد نصر الله، وعهد ما بعد نصر الله.
كثيرة هي الأحداث التي يمر بها الحزب اللبناني، وتنسحب بالتبعية على مجمل الأوضاع الجيوسياسية في الشرق الأوسط. كثيرة هي أيضًا التحليلات التي ترسم سيناريوهات اليوم التالي بعد حسن نصر الله، سواء على الحرب في غزة أو مجمل المناطق الساخنة في المنطقة.
لكن هناك "إشارات في الظل" يتوجب إعادة قراءتها بتأنٍّ لما لها من بالغ الأثر على حزب الله. من ضمن هذه الإشارات احتياج الجيش الإسرائيلي نحو 16 ساعة كاملة ما بين الاستهداف والإعلان الرسمي لمقتل حسن نصر الله.
في الاستهدافات الإسرائيلية التي طالت قيادات حزب الله منذ تفجيرات أجهزة الاتصالات، احتاجت إسرائيل إلى 5 ساعات في المتوسط للإعلان الرسمي عن نجاح عملية الاستهداف.
المدة الطويلة نسبيًا لتأكيد واقعة مقتل نصر الله، مقارنةً بسابق وقائع الاستهدافات، تشير إلى تأخر وصول المعلومة الموثوقة من داخل الحزب. ما تفسير ذلك وسط الاختراق الاستخباراتي الذي يعاني منه الحزب؟
اختراق الحد الأعلى
من المسلم به أن من أرسل "المعلومة الكنز" بمكان وموعد اجتماع نصر الله، كان يتأهب لتسريب نبأ "مقتله". عدم حدوث ذلك يمكن إرجاعه لأكثر من عامل:
أولاً: صاحب هذه المعلومة قطعًا لم يكن متواجدًا في المكان وقت الانفجار، لكن الغريب أنه لم يكن قريبًا من دوائر الاتصالات العليا للحزب عقب الانفجار، سيما وأنه عقب الانفجار تطايرت الاتصالات على كافة مستويات القيادات العليا، للوقوف على حجم ونوعية الخسائر في الأرواح التي تكبدها الحزب.
هذه الجزئية تحديدًا تفسر تأكيدات إسرائيل بتواجد نصر الله وقت الضربة، رغم نفي الحزب ومصادر إيرانية في بادئ الأمر، وكذلك تقلص الترجيحات التي تذهب إلى أن الاختراق الاستخباراتي طال هرم القيادة الأعلى.
ثانيًا: نتيجة عمق مكان الاجتماع وقوة حجم الانفجار، احتاج الحزب إلى وقت طويل لاستيضاح حقيقة مصير أمينه العام، ومن ثم احتاج "المصدر المطلع" المزيد من الوقت للتأكد من مقتل حسن نصر الله، وبالتالي احتاجت إسرائيل 16 ساعة تقريبًا للتأكد من نجاح العملية. هذه الفرضية تبقي ترجيحات الاختراق في الحد الأعلى أمرًا واقعًا.
ثالثًا: إسرائيل تأكدت من مصدرها الموثوق بنجاح العملية منذ دقائقها الأولى، غير أنها تعمدت تأخير الإعلان الرسمي لفرض حالة من الضبابية على مصدرها الاستخباراتي، سيما وأن الإعلان المبكر قد يدفع في اتجاه الإسراع في اكتشاف هوية مصدرها.
عنصر آخر يعزز من منطقية هذه الفرضية، يتمثل في أن إسرائيل عقب هذه العملية تحديدًا كانت تتحسب من رد فعل يتجاوز "قواعد الاشتباك"، ما يعني أنها احتاجت وقتًا لتقييم التوابع المحتملة للعملية قبل الإعلان الرسمي.
وفيما يتعلق بالروايات التي يتم تناقلها عن مسؤولين مجهولين، وآخرها استخدام إسرائيل مادة "غامضة" لتتبع نصر الله، في تقديري أنها لا تخرج عن محاولات توجيه الأنظار بعيدًا عن دائرة "العملاء" قدر الاستطاعة.
أمريكا في الظل
الأمر الآخر اللافت للنظر، التصريحات المتواترة التي تخرج من الإدارة الأمريكية، حول عدم إطلاعها على العمليات الكبرى من قبل إسرائيل. هذه التصريحات لا تخرج عن كونها للاستهلاك الإعلامي، لأن التنسيق الإسرائيلي-الأمريكي بات وثيق الصلة فيما يتعلق بتطورات الأحداث في المنطقة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
الأدلة على ذلك كثيرة ومتعددة، وسبق الخوض فيها مرارًا وتكرارًا، ولكن.. لماذا توحي أمريكا للجميع بأنها في "الظل"؟ يمكن إرجاع ذلك لأكثر من عامل:
أولاً: أمريكا تقدم نفسها طيلة الوقت على أنها القطب العالمي الأوحد، وأنها تمتلك في أيديها وسائل ضغط كفيلة بخفض التصعيد بين مختلف أطراف الصراع بالمنطقة، لذا ليس من الدبلوماسية إعلانها على الملأ خوضها الحرب مع أحد طرفي الصراع.
ثانيًا: محاولة أمريكا التنصل من عمليات إسرائيل، يمنحها مرونة للتحرك في دوائر التفاوض الواسعة،
حال خروج التصعيد الراهن عن قواعد الغرف المغلقة، سيما وأنها تملك أوراق "منح ومنع" كفيلة بإعادة طهران إلى طاولة التفاوض.
ثالثًا: إعلان أمريكا دعمها للعمليات ضد حزب الله اعتراف منها بالتدخل الرسمي في التصعيد الراهن، ما يتنافى مع خطابها في المحافل الدولية المناوئ للتصعيد العسكري، وتغليب لغة الحوار على لغة النار لضمان استقرار الأمن والسلم الدوليين، أضف إلى ذلك أنه يسمح لواشنطن بتجنب الإحراج الدولي، سيما حال أدت العمليات إلى سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين.
رابعًا: يحافظ لها على علاقتها الاستراتيجية مع الدول العربية، خاصة تلك التي تتباين مواقفها من حزب الله، وتبدي تحفظها تجاه العمليات الإسرائيلية، إذ تعد هذه العلاقات ضرورية للمصالح الأمريكية بالمنطقة وسط تنامي نفوذ الصين وروسيا.
خامسًا: تحافظ أمريكا طوال الوقت على تعزيز قدرة الردع الإسرائيلية في المنطقة، وإظهار إسرائيل باعتبارها قوة عسكرية قادرة على تنفيذ عملياتها الكبرى بشكل مستقل ودون الدعم الأمريكي يعزز من هذه الاستراتيجية.
بيت القصيد.. ما تشهده المنطقة في الآونة الراهنة يحمل الكثير من الألغاز التي ستظل عصية على الفهم.
ومثلما ظلت المنطقة في بؤرة الاهتمام العالمي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فإن الأنظار ستظل شاخصة نحو ما يحمله اليوم التالي بعد حسن نصر الله.
قد يكون تغييبه عن المشهد بداية حلحلة لكثير من الأزمات، وقد يؤشر لانتقال الصراعات إلى مستويات أكثر سخونة، لكن المؤكد أن قادم الأيام سيفاجئنا بما لا نتوقعه.
*كاتب صحفي ومحلل سياسي مصري
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة