كان لافتاً الدعوة التي وجهها قصر الإليزيه قبل أيام لعدد من القوى السياسية في مناطق الإدارة الذاتية بشرق سوريا لزيارة باريس.
وهي دعوة جاءت عقب وصول الحوار الكردي - الكردي السوري إلى طريق مسدود، بعد الشروط التعجيزية التي طرحها المجلس الوطني الكردي المنضوي في الائتلاف السوري المرتبط بتركيا، وهي شروط تقدم على طبق من ذهب الوضع الذي تشكّل في شرق سوريا للسياسة التركية، وقد جاءت دعوة الإليزيه في إطار الاهتمام الفرنسي بأكراد سوريا، سواء في إطار التحالف الدولي لمحاربة داعش أو في إطار الاهتمام الفرنسي التاريخي بأكراد سوريا، بوصفهم أقلية قومية حرصت فرنسا على إظهار دعمها لهم، وهو ما يثير حفيظة تركيا، مع أن الخلافات الفرنسية - التركية تشمل دائرة واسعة من القضايا الخلافية، بدءاً من النزاع في شرقي المتوسط، ومروراً بالدعم الفرنسي لقضية الإبادة الأرمنية، ووصولاً إلى الإسلام السياسي الذي تدعمه الحكومة التركية في قلب الدول الأوروبية. وعليه لم يكن غريباً الهجوم الذي شنّه الرئيس التركي أردوغان ضد الرئيس الفرنسي ماكرون عندما استقبل الأخير قبل نحو عامين وفداً من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الإليزيه إلى درجة أن أردوغان اتهم فرنسا بدعم الإرهاب، وهدد بمواجهة عسكرية معها إذا أرسلت قواتها إلى شرقي الفرات، وتحديداً إلى مدينة منبج عقب الانسحاب الأمريكي منها، ولعل هذا الجدل الفرنسي - التركي بخصوص شمال شرق سوريا، ينبع من الصراعات والصفقات التي جرت بينهما على المناطق الحدودية بين سوريا وتركيا، حيث كانت فرنسا تحتل سوريا حتى عام 1946، وكانت الطرف الأساسي في رسم الاتفاقيات الحدودية التي حددت الحدود الشمالية لسوريا مع تركيا.
في خضم الجدل الفرنسي - التركي هذا، ثمة أسئلة كثيرة عن أسباب الاهتمام الفرنسي بأكراد سوريا، وهي اهتمامات تتعلق بدوافع وأهداف متداخلة، لعل أهمها:
1- باتت فرنسا بعد العمليات الإرهابية التي ضربت أراضيها في السنوات الأخيرة تخشى كثيراً على أمنها الداخلي من الجماعات الإرهابية ولا سيما خلايا داعش واحتمال انتقالها إلى الداخل الفرنسي، خاصة في ظل وجود أعداد لا بأس بها من الفرنسيين في صفوف التنظيم رغم هزيمته العسكرية. وعليه في ظل علاقاتها الدبلوماسية المقطوعة مع الحكومة السورية ترى من الأهمية وجود علاقة قوية لها مع طرف سوري موجود على الأرض لمكافحة داعش وخلاياه وملاحقة الفرنسيين في صفوفه، والقضاء على هؤلاء لمنع انتقالهم إلى الداخل الفرنسي، ولعلها ترى في قوات "قسد" خير حليف في هذا المجال، خاصة بعد أن أثبتت هذه القوات نجاحها في محاربة داعش.
2- إن فرنسا تاريخياً كانت من أكبر الداعمين لحقوق الأقليات القومية والدينية ولا سيما الأكراد والمسيحيين في سوريا، وبعد العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا وشرقها "غصن الزيتون - درع الفرات - نبع السلام" باتت فرنسا تخشى من ذهاب تركيا إلى غزو مناطق أخرى في ظل التهديدات التركية المتواصلة بعمليات جديدة، وعليه كانت فرنسا أكثر الدول المنتقدة للعمليات العسكرية التركية هذه، وهو ما تسبب بسجال تركي - فرنسي حاد خلال هذه العمليات.
3- إن توقيت الدعوة التي وجهها الإليزيه إلى قوى سياسية وحزبية في شرقي الفرات لم يكن بعيداً عن التنسيق الأمريكي - الفرنسي في سوريا من جهة، ومن جهة ثانية لها علاقة بإدراك فرنسا أن تركيا باتت طرفاً في عرقلة الحوار الكردي - الكردي من خلال ضغطها على المجلس الوطني الكردي لإفشال هذا الحوار رغم التقدم الذي جرى خلال المرحلة الأولى، إذ إنها ترفض أي عملية سياسية تؤدي إلى الإقرار بالإدارة الذاتية الكردية في شرقي الفرات، على اعتبار أن مشروع هذه الإدارة هو في النهاية مشروع لعدوها اللدود حزب العمال الكردستاني.
4- إن فرنسا وبحكم معرفتها التاريخية بالقضية الكردية اتجهت نحو أربيل للقيام بدور مؤثر لدى أطراف الحركة الكردية في سوريا لدفعها إلى اتفاق مصالحة، وتشكيل مرجعية كردية مشتركة، والتأسيس لحوار بين الأكراد والحكومة السورية في إطار رؤية الحل السياسي للأزمة السورية، وفي هذا الإطار جاءت الزيارة التي قام بها رئيس إقليم كردستان نيجيرفان البارزاني قبل نحو أسبوعين إلى باريس ومحادثاته مع الرئيس ماكرون، في ظل تأكيده الدائم على الحل السياسي للأزمة السورية من خلال الحوار.
في المقابل، ترى تركيا أن أي تحرك فرنسي باتجاه أكراد سوريا يصب في إطار مخططات تقسيم سوريا وإقامة دولة كردية وليس محاربة الإرهاب، وعليه يشن المسؤولون الأتراك وعلى رأسهم الرئيس أردوغان هجمات ضد فرنسا كلما صدرت عنها تصريحات داعمة للأكراد أو طلبت من تركيا وقف هجماتها ضدهم أو الانفتاح عليهم، كل ذلك بحجة أن "قسد" منظمة إرهابية.
في الواقع، من الواضح أن الصراع الفرنسي - التركي على أكراد سوريا يدور حول إحلال شكل الهوية السياسية والاجتماعية في منطقة شرق الفرات، وهو كباش يثير الحساسية التركية التاريخية من أي دور فرنسي داعم لقوات "قسد"، خاصة أن تركيا تدرك جيداً أن على أرض فرنسا عقدت اتفاقية "سيفر" عام 1920، تلك الاتفاقية التي أقرت في بنودها 62 - 63 - 64 من الفقرة الثالثة بإقامة دولة كردية في مناطق جنوب شرق تركيا، فضلاً عن ذلك، فإن الحساسية التركية هذه لها علاقة بالأجندة التركية التي تشكلت عقب احتلال تركيا مناطق واسعة في شمال سوريا وشرقها، حيث تدعم أنقرة جماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين هناك، من أجل إقامة بنية مرتبطة بها، كما تعمل لتمكينهم اجتماعياً واقتصادياً وعسكرياً وسياسياً بغية إيصالهم إلى السلطة في إطار سياستها تجاه الأزمة السورية.
من دون شك، تعكس دعوة الإليزيه قوى حزبية وسياسية في شرقي الفرات لزيارة باريس، مدى الصراع الخفي بين باريس وأنقرة على المكون الكردي السوري من جهة، وعلى كيفية نسج العلاقات بين مكوناتها ودور هذه المكونات في مستقبل الأزمة السورية من جهة ثانية، وفي كل هذا تسعى تركيا بقوة إلى منع أي اتفاق بين الأطراف الكردية لتشكيل مرجعية موحدة لهم، إذ إنها ترى في تداعيات هذه المرجعية خطراً على الداخل التركي، انطلاقاً من قناعتها بأن مثل هذا الأمر سينعكس على أكراد تركيا في الداخل وسقف مطالبهم القومية، وهو ما لا تريده أنقرة التي تقول إنها في سبيل منع ذلك مستعدة لمحاربة العالم كله.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة