حركة التاريخ لا تعرف العبثية ولا الصدفة، ولا يحدث فيها ولا منها حوادث إلا ولها أسباب متراكمة عبر زمن طويل، أدركها الإنسان والمجتمع أو لم يدركوها.
وكذلك لها نتائج على المدى الزمني البعيد؛ يجب تأملها والتفكر فيها والتنبؤ بها، والاستعداد لها. التاريخ حركة دقيقة جداً، وصيرورة متفاعلة بصورة أكثر انضباطا من تفاعلات الكيمياء في المختبرات، التاريخ لا يجامل أحدا، ولا يظلم أحدا، كل ما نحن فيه صنعه لنا من سبقونا بأيديهم، وبأيدينا نصنع لأولادنا وأحفادنا.. فماذا نحن تاركون لهم؟
كان أستاذي الدكتور عزالدين فودة رحمة الله عليه، يردد دائما "إن الله لا يفعل إلا خيرا"، يقولها في البأساء والضراء، بيقين ثابت قوي، كان الأمر بالنسبة لي غريباً أن تكون لديه هذه العقيدة الراسخة؛ أن كل شيء يحدث هو خير، وحين وضعت منهج الحضارة الإسلامية لجامعة زايد في الإمارات عام 2000، كانت أول موضوعاته "نقاط التحول في التاريخ الإسلامي"، وهي الحوادث الكبرى التي أحدثت نقلة نوعية في تاريخنا، وكان ما بعدها يختلف جذريا عما قبلها، حينها تذكرت كلمة أستاذي ووضعت منهجية تدريس هذه النقاط طبقا لمبدأ "إن الله لا يفعل إلا خيرا"، وطلبت من زملائي - الذين يدرسون المنهج - أن يكون السؤال المحوري في كل واحدة من نقاط التحول هذه هو: ماذا كان سيحدث.. لو لم يحدث؟، فإذا نظرنا لما يحدث في العالم بصورة عامة، وفي العالم العربي بصورة خاصة؛ وما يحدث فيهما من خلال نفس السؤال، فماذا سنجد؟.
أولا: إذا أخذنا مثالا من التاريخ فسنجد أن الغزو المغولي، وتدمير الدولة العباسية، وسقوط بغداد الأول كان كارثة تاريخية من جانب، ولكنه تحول بعد فترة قصيرة إلى تجديد كامل لدماء الأمة الإسلامية من خلال دخول شعوب الترك والمغول في الإسلام، وانتشارهم من الهند إلى حدود موسكو، ومن الصين إلى الأناضول، وظهرت بعد ذلك دول، ومجتمعات إسلامية من شمال غرب الصين إلى البلقان مرورا بتركيا وجميع جمهوريات آسيا الوسطى، وظهرت حضارة المغول المسلمين في جميع أنحاء الهند لمدة 500 عام، حتى قدوم الإنجليز.
وكذلك وبنفس المنطق كان فشل الحملات الصليبية على الشرق كارثة على ملوك أوروبا، ولكن هذا كان بداية النهضة الأوروبية من خلال نقل أعظم منتجات الحضارة الإسلامية إلى القارة التي تعيش في ظلام دامس، فظهرت الجامعات، وظهرت الأوقاف، وتغير نمط العمارة، وظهرت كل إبداعات الحضارة في والمعيشة والسكن واللباس ونمط الحياة، وبدأ عصر الأنوار من خلال ترجمة ما أبدعه المسلمون، وما نقلوه عن الإغريق.
ثانيا: ما يشهده العالم من حروب وكوارث تقود إلى حدوث هذه الهجرات الضخمة من النازحين واللاجئين من العراق وسوريا وقبلهما أفغانستان إلى أوروبا وبعدها من أوكرانيا؛ يجب أن ننظر إليها في ضوء المستقبل الديموغرافي للعالم، وكيف أن تاريخ التوزيع الديموغرافي للبشر كانت تصنعه الحروب، فلولا الحرب العالمية الثانية لظلت أمريكا بلداً لرعاة البقر والفلاحين، وما أحدث فيها هذه النقلة الحضارية الهائلة هو هجرة الألمان، ومن جاورهم إلى أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية.
والآن يشهد العالم حركات هجرة مماثلة ستعيد تكوين ديموغرافية أوروبا، ويكفي أن نعرف أن وزارات الخارجية في كل من الولايات المتحدة وبلجيكا والدنمارك أصدرت منذ ٢٠٠٨ تقارير متتابعة عن الشيخوخة في العالم؛ تنبأت بأن أوروبا في منتصف هذا القرن ستكون دار عجزة ومسنين كبيرة، بحيث يكون من كل عشرة أشخاص هناك اثنان فقط قادرين على العمل، لذلك قد تكون هذه الهجرات وما يصاحبها من مآسٍ عملية تاريخية لإعادة توزيع سكان في العالم، ورسم خرائطه المستقبلية.
ثالثاً: إن ما يشهده العالم العربي من حروب، وانهيارات دول، وتفكك مجتمعات منذ بداية الربيع العربي المشؤوم قبل عقد من الزمان هو في حد ذاته عملية ولادة قسرية لمستقبل سيكون بالتأكيد مختلفا بصورة كبيرة عن الماضي، لأن المجتمعات التي مرت بذلك المخاض العسير سوف لن تعود إلى نفس أنماط الحياة أو العلاقات التي كانت سائدة فيما مضى، وسوف تنشأ فيها وبينها شبكة علاقات اجتماعية جديدة، وسوف يعاد تشكيل دولها بصورة جديدة.
رابعاً: ما يحدث في غزة من كوارث غير مسبوقة سيكون لحظة تاريخية فاصلة في تاريخ المنطقة، لن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل اشتعال الموقف، وسوف يتغير المشهد الفلسطيني والإقليمي والدولي، وستكون هناك بداية جديدة، فمن قلب الألم يولد الأمل، فقد تكون هذه اللحظة طوق نجاة للقضية الفلسطينية، وبداية نهاية لمن وضع هذا الشعب تحت هذا الكم غير الإنساني وغير المسبوق من الألم.
والخلاصة أن حوادث الزمان وحركة التاريخ، وما نشهده من أزمات وكوارث لها وجوه متعددة، والبراعة أن نحولها من الوجه السلبي، والمعني المثبط الذي يدفعنا لليأس، إلى الوجه الإيجابي، والمعني الدافع الذي يقودنا للعمل والإنجاز، وأن أسوأ الحوادث وأكثرها سلبية هو طاقة أمل للمستقبل.. " لأن الله لا يفعل إلا خيراً".. رحم الله أستاذي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة