تُرفع الستار عن أحداث رواية "زقاق المدق" للكاتب المصري نجيب محفوظ على مشهد العامل في "قهوة كرشة" يركّب "مذياع جديد بنصف عمر".
يدخل الشاعر "العجوز الحكاواتي" ومعه الربابة.. يشرب قهوته ثم يبدأ في إنشاد حكاية "أبو زيد الهلالي"، فيقاطعه المعلم "كرشة" قبل أن يكمل بكلمات حارقة مفادها أن حكاياته "لم يعد لها زبون بعد تركيب المذياع الجديد"، ويطرده من القهوة.
يغادر شاعر الربابة القهوة، التي اعتاد أن يكون منشدَها لعشرين عامًا كاملة.. بظهور الراديو ثم التليفزيون وانتشاره شيئا فشيئا بين الناس وعامة الشعب بمختلف طبقاتهم الاجتماعية اختفى المنشدون واندثرت مهنتهم وحلّت محلها تلك الأجهزة ثم مقاطع الفيديو على الإنترنت وخلافه.
مثال الانقراض نفسه ينطبق على المُنادي، الذي كان يخبر أهل القرى بالأخبار وأوامر الحكومة ومواعيد الأعراس وحالات الوفَيات.. كان المُنادي يعمل عمل نشرة الأخبار في عصرنا الحديث.
إن "لقمة العيش" في تراث المصريين هي المكون الأساسي لقوت يومهم.. يعتبرونها مبرر حياتهم ووجودهم.. لذا يطلقون على الذاهب إلى عمله أنه "يجري على أكل عيشه".. لكن لماذا "يجري"؟ هل في الحكاية صراعٌ ما؟
البشر يحاربون فكرة "انقراض المهن" تقريبًا منذ ظهور الآلة.. الإحصائيات والدراسات على فكرة انقراض المهن حديثة نوعًا ما، لأنها تربط الموضوع بتطور "الذكاء الاصطناعي". غير أن تاريخ الأدب حافل بأمثلة كثيرة -أقدم من ظهور الذكاء الاصطناعي- على مهن اختفت وحلّت محلها الآلة.
فلو عدنا لزمن الأندلس. نجد شخصية "أبو جعفر" في رواية "ثلاثية غرناطة" للكاتبة رضوى عاشور.
و"أبو جعفر" هو الرجل متيسر الحال، أحد أبطال الحكاية، وهو الجد الذي انحدرت من بيته السلالة، التي أمتعتنا لجيلَيْن بعده.. كان يعمل "ورّاقًا"، ويمتلك "حانوتًا" في حي الورّاقين بغرناطة. والورَّاق هو ناسخ الكتب، أو الشخص الذي يكتب نُسخًا عدة من كتاب، بما يشمل نسخ الكلمات وترتيب الصفحات ولصْقها وعمل الغلاف… إلخ.
وحي الورّاقين نفسه كان يحمل اسم المهنة العتيقة، التي اندثرت. هل أصبح لتلك المهنة العظيمة وأهلها المثقفين الأثرياء الآن أي وجود؟ ألم تحلّ محلّها المطبعة اليدوية ثم استمر التطور لنصل إلى المطابع الكبرى، التي تطبع آلاف النسخ في دقائق معدودة في عصرنا الحديث؟
صرنا أسرع بتسارُع العلم..
تتوقع الدراسات اندثار مِهَن عاشت منذ آلاف السنين.. أصبحنا ندرك الآن أن الذكاء الاصطناعي ينافس للهيمنة على كل شيء.. على كل وظيفة.. حتى وظيفة المترجم.. التي صارت مهددة بسبب تقنيات الذكاء الاصطناعي.. إذ بدأ الأمر بإنشاء برامج ترجمة آلية تترجم ترجمة حرفية "كلمة أمام كلمة".. مع إغفال المعنى العام للجملة، مثل "جوجل ترانسليت".. ثم تطوّرت تلك البرامج عن طريق إدخال قواعد بيانات وقوائم مصطلحات جديدة ونصوص كاملة عليها، حتى تمكنت من إعطائك نصًّا مترجمًا شبيهًا بعمل مترجم مبتدئ، والمتوقع أن تصل قريبًا إلى درجة احترافية أعلى ليختفي بعدها المترجم البشري إلى الأبد.
لقد فاجأتنا وكالة أنباء "شينخوا" الصينية بإطلاق أول مذيعَين اثنين آليَّيْن يعملان بالذكاء الاصطناعي.. وانتشرت مقاطع الفيديو لهما وهما يقدمان نشرة الأخبار.. هل نحن أمام فكرة أن يحل الإنسان الآلي محل مذيع الأخبار الحقيقي؟
اللافت للنظر أن مهنًا مثل الصحافة والترجمة والإذاعة تحتاج إلى إنسان يخاطب إنسانا مثله.. تحتاج إلى عقل بشري لديه رأي وقادر على اتخاذ قرارات إبداعية ووضع صور مناسبة والتحدث بلغة تخاطب مشاعر الجمهور أو القراء المستهدفين.. المزعج حقا أن تتطور الآلة لتصبح قادرة على إصدار أفعال قائمة على مشاعر كالبشر؟ ساعتها سنكون نحن البشر في خبر كان.
فهذا "الروبوت" الذي هاجم طفلا يلعب معه مباراة شطرنج بإحدى المسابقات، لأنه استبقه في لعب دوره، قد أصدر عقابا ونفذه على الطفل وتصرفه الذي لم يعجب السيد الروبوت.. لم يكن هذا الفيديو المتداول من "عجائب وطرائف" ما نشاهده.. وجب علينا أن نلتفت إلى ما وراء هذا الحدث.. فمجرد أن تتصرف آلة تصرف البشر، وتعتمد على مشاعر الغضب والمحبة، كما نفعل ونتميز نحن تماما عنها، فهذا يدق جرس إنذار للبشر أنفسهم بأن الآلة قد تُحدث طفرة مع نفسها لتفكر وتنقلب على صانعيها.
لقد صنع الإنسان الآلات وطوّر البرامج لتساعده وتسهل عليه حياته، لكن من الواضح أن الأمر قد ينفلت من بين يديه ويصير ضحية من ضحايا الآلة أو كل مصنوع.. لقد أصبح الأمر أشبه بمن يربّي أسدًا ليحميه فيكبر ويأكله.
الأمر ليس تهديدا فرديا، بل أصبح خطرًا على القوام المجتمعي نفسه. ستتسع الفجوة بين الناس لعدم قدرة الجميع على مجاراة التسارع المحموم. فليس كل إنسان قادرًا على تعلم مهارة واثنتين و"الجري" كي لا تسبقه آلة. فللأسف الأمر لم يصبح رفاهية لتتطور اجتماعيا وماديا، بل أصبح ضرورة للحفاظ على مصدر دخلك من الأساس.
البشر مهددون بانقراض مصادر رزقهم آناء الليل وأطراف النهار، وعلى أصحاب كل مهنة "بشرية" "الجري" ربما أسرع من المعتاد لتحسين مهاراتهم، التي أصبح ينافسهم فيها ذلك الذكاء الاصطناعي، وليس زملاؤهم في العمل من أهل البشر. فلنُسابق الزمن حتى لا يغلبنا "الروبوت"، ونتعلم أكثر لئلا تطردنا الآلة من قهوة الحياة كما طرد "راديو المعلم كرشة" شاعر الربابة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة