الديمقراطية أصبحت موضع التساؤل قبل أن ينتهي العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وتراجعت دول كثيرة عن الديمقراطية.
العالم لا يبقى على حال، وربما نحن الذين نتغير، فالإنسان وحده داخل المملكة الحيوانية هو الذي يتفكر في خلق السماوات والأرض، وهو الذي يراجع ويفاضل، يؤيد ويتعصب، ويرفض ويعارض؛ وقبل ذلك كله فإن له ذاكرة تبحث عن الأسباب والتجارب وما تعطيه من دروس. الديمقراطية فكرة قديمة عرفها الهيلينيون، ومارستها دولة المدينة في أثينا وانتقدتها، ولدى سقراط ومن بعده أفلاطون كانت فيها مغادرة للعقل والحكمة والحصافة في التدبير والفاعلية في القرار، ما ثبت منها العصور التالية كان "القانون" الذي بدونه لا تكون حضارة ولذا يضع فارقا بين الدول المتحضرة والأخرى البربرية؛ جودة القوانين وعدالتها قصة أخرى لها علاقة بجودة الحكم وعظمة الحاكم وعلم وحكمة النخبة.
الحضارة الرومانية طورت بدورها من "القوانين" وأضافت لها مؤسسات ظل منها حتى الآن "مجلس الشيوخ"، ولكن العصور الوسطى عادت بذلك كله إلى "الكتاب المقدس" ومنها جاءت "الحقوق المطلقة" للملوك التي لم تعرف كثيرا المقدس في الكتاب، ومنها جاءت الحروب الدينية التي استمرت مرة لمائة عام، ومرة أخرى لثلاثين عاما. وبينما كان ذلك يجري في أوروبا، كان العالم الآخر الآسيوي والشرق أوسطي يعيش حالة نقية من "الاستبداد الشرقي" الذي يجمع ما بين إمامة الناس وقيادتهم في نفس الوقت. في الحالتين لم يكن العالم سعيدا، وحينما جاء "مالثوس" بنظريته عن عدم المواءمة بين الزيادة السكانية وهي السريعة في ناحية وزيادة الموارد، وهي البطيئة والمتناقصة أحيانا في ناحية أخرى، كان في الحقيقة يبشر بالفناء. ولم يكن هناك فقر في الدليل، فقد كان "الطاعون" يزور الأمم بصورة دورية مبشرا بصحة النظرية المالثوسية. في مثل هذه الحالة لم يكن هناك مجال للتفكير في الديمقراطية.
لم يقدر للديمقراطية أن تكون قدرا سياسيا لدول العالم حتى عقد التسعينيات من القرن الماضي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة وبزوغ الثورة الصناعية الثالثة للمعلومات والإلكترونيات التي جعلت من العالم قرية صغيرة
ربما كانت النقطة الفارقة تاريخيا هي عام ١٤٩٢ عندما وصل كريستوفر كولومبوس إلى "العالم الجديد"، ورغم أن العالم ساعتها لم يعلم أنه اكتشف أرضا جديدة، فإن الجهل بهذه الحقيقة لم يستمر كثيرا، وأكثر من ذلك دار "ماجلان" حول الأرض، وثبت بالفعل أنها كروية، وتدور كذلك حول الشمس.
انتهت العصور الوسطى خلال القرون التالية بفعل ثورة العقل، والتنوير، والعلم والصناعة، والثورتين الأمريكية والفرنسية، ومنهما برزت مركزية "الحرية" كقيمة تعرف الإنسان كمخلوق مكلف بالاختيار. وهكذا التقت الحرية مع القانون في "عقد اجتماعي" أخذ أكثر من صورة بين الفرد والدولة يتنازل فيها عن حرياته الأساسية مقابل قيام الدولة بالحماية من الفوضى وهضم القوي حقوق الضعيف (توماس هوبز)، أو جاء العقد بين الأفراد لتكوين الإرادة العامة (جان جاك روسو) أو أن العقد يكون بين الفرد والمؤسسات والدولة بحيث يكون قائما على توزيع الحقوق والواجبات التي تستند إلى الفصل بين السلطات وتوازنها وكفالة تداول السلطة (مونتسكيو وجون لوك). مع القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين أصبحت الديمقراطية فلسفة شرعية في الحكم والمعارضة وحرية التعبير.
لم يكن بزوغ الديمقراطية في مجال المشروعية السياسية سهلا، فحتى عندما جاء إعلان الاستقلال الأمريكي مقرر حريات الفرد التي لا يمكن التنازل عنها في الحرية والبقاء والسعي نحو السعادة، فإن الدستور الأمريكي الذي جرى تفصيله على فلسفة "جون لوك" لم يقر فقط استمرار "العبودية" بل احتاج الزمن إلى ستة عقود حتى تكون هناك حرب أهلية استمرت خمس سنوات (١٨٦٠-١٨٦٥) لكي يصدر الكونجرس إعلان انعتاق أو حرية العبيد. وحتى بعد الإعلان وصدور التعديلات الدستورية التي أعطت حقوق المواطنة والتصويت لمن كانوا من أصول أفريقية، فإن "المساواة" بين البيض والسود لم يجر تطبيقها إلا بعد إصدار قانون الحقوق المدنية في ستينيات القرن الماضي. لم تكن الديمقراطية سائدة في معظم دول العالم، وفي الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة فإنها كانت مختلطة بالكثير من العنصرية والتمييز العملي. وفي دول متقدمة أخرى مثل ألمانيا وإيطاليا جاءت المنافسة من الأفكار الفاشية التي قامت على التمييز العنصري والاستبداد السياسي. وحتى في الدول الاشتراكية التي تحدثت كثيرا عن المساواة والعدالة، فإنها في الواقع كانت فريسة الزعامة المطلقة لشخص أو لحزب أو كليهما معا. وحتى في دول العالم الثالث التي خاضت حروبا وقيادة حركات التحرر الوطني فإنها لم تكن تعلم ما الذي تعنيه "الحرية" و"الاستقلال" لمواطنيها فكانت الزعامات التي حملت مع زعامتها سلطات خلفاء المسلمين وأئمة الشيعة معا.
لم يقدر للديمقراطية أن تكون قدرا سياسيا لدول العالم حتى عقد التسعينيات من القرن الماضي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة وبزوغ الثورة الصناعية الثالثة للمعلومات والإلكترونيات التي جعلت من العالم قرية صغيرة.
ولأول مرة في التاريخ البشري أصبحت "الديمقراطية" نظاما أخلاقيا سائدا في الغالبية من دول العالم، ومع استنادها للفلسفة الليبرالية، والنظام الاقتصادي الرأسمالي، فإنها باتت شرطا عالميا في المؤسسات الدولية للنجاح والتقدم. أصبحت معاداة الديمقراطية سببا من أسباب "التدخل الإنساني" عسكريا من قبل الولايات المتحدة وحلف الأطلنطي. ولكن "اللحظة الديمقراطية" سرعان ما باتت مرتبطة بلحظة أخرى هي "اللحظة الأمريكية" التي ربما كانت أول الثقوب في الثوب الديمقراطي العالمي. البعد الأساسي في الفلسفة الديمقراطية والليبرالية عامة هو المساواة أمام القانون وما جرى الاتفاق عليه من معاهدات واتفاقيات. الولايات المتحدة خوّلت لنفسها بسبب قوتها الخروج على ما تراه كما كان الحال مع المحكمة الجنائية الدولية، ومطالبة جميع دول العالم بالاتباع والامتثال لما تدخل فيه.
الثقب الثاني جاء من الثورة التكنولوجية الصناعية الثالثة المنطلقة من الذكاء الاصطناعي والتفاعل بين تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الحيوية والإمكانيات الهائلة للتلاعب بقواعد المعلومات الهائلة حول ملايين من البشر واستخدامها لخدمة أهداف خاصة لم يقررها بشر، ولا تداولتها مجالس، ولا علم بها جموع. هذه الثورة سمحت لقوى عظمى مثل روسيا، وربما الصين، بالتلاعب بالانتخابات الجارية في دول أخرى بحيث تكون نتيجة الانتخابات ليست انعكاسا لقاعدة الأغلبية بل انعكاسا للإرادة الاستراتيجية لهذه الدول. والأخطر من ذلك أنها أعطت فرصة للدول ذات النظام الديكتاتوري لكي تتحكم في شعوبها عقليا من ناحية، وأمنيا من ناحية أخرى. وما لا يقل خطورة أن أدوات التواصل الاجتماعي باتت النافذة التي تندفع فيها المشاعر والغرائز، والتي تنفذ منها زعامات "شعبية" بشعارات "شعبوية" تدفع الجماهير في اتجاهات تميزها عن بقية الدول الأخرى، والأجناس الأخرى، والطوائف الأخرى فبات الجميع في حرب ضد الجميع حقيقة أو افتراضا.
الثقب الثالث أن الديمقراطية لم تكن فقط واقفة في مواجهة التلاعب لصالح الاستبداد، بل فتحت الباب لكي تكون أدواتها طريقا إلى الفوضى، وتحويل الأغلبية إلى نوع من الطغيان سماه توماس جيفرسون من قبل "طغيان الأغلبية" التي لم تكن جمعا للحكمة العامة، بل ممارسة للفوضى، وإعدام القدرة على اتخاذ القرار، وتفتيت الرأي العام، وكسر الدولة الموحدة. نافذة الثقب هذا كانت في سوء استخدام آلية الاستفتاء في تحقيق الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي بكل ما له من نتائج على الأمن الأوروبي، ووحدة المملكة المتحدة، وأمنها الاقتصادي. حلت الشعارات محل السياسة في هونج كونج التي تحولت فيها المظاهرات من معارضة لقانون جرى إلغاؤه بالفعل إلى شلل الاقتصاد في مدينة كانت في مقدمة "النمور الآسيوية". وفي لحظات كثيرة فإن حق التظاهر ذاته تحول إلى التقليل من مناعة الدولة وقادها إلى الحرب الأهلية كما جرى فيما سُمي "الربيع العربي" في منطقة الشرق الأوسط، وهو ثقب نفذت منه جماعات الراديكالية الدينية العدو الأول للديمقراطية، ومن ورائها "الثيوقراطية السياسية" والإرهابية التي جاءت الديمقراطية في الأصل للثورة عليها.
أصبحت الديمقراطية موضع التساؤل قبل أن ينتهي العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وتراجعت دول كثيرة عن الديمقراطية، وباتت مسيرة التاريخ مفتوحة من جديد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة