صندوق النقد الدولي.. بين الاستقرار المالي والجدل الاجتماعي

ظل صندوق النقد الدولي أحد أبرز أعمدة الاقتصاد العالمي ورمز للتعاون المالي وذلك منذ أن خرج إلى النور عقب الحرب العالمية الثانية.
لكن هذه المؤسسة لم تخلُ من الجدل، إذ تتراوح النظرة إليها بين كونها منقذاً للاقتصادات المتعثرة من الأزمات المالية، وبين كونها أداة لتكريس هيمنة القوى الكبرى على القرار الاقتصادي في الدول النامية.
والصندوق فعلياً ليس مجرد مؤسسة مالية، بل فاعل سياسي واقتصادي يحدد اتجاهات السياسات العامة في عشرات الدول. وبينما يرى البعض أن الصندوق هو صمام أمان للاقتصاد العالمي، يعتبره آخرون أداة لفرض سياسات نيوليبرالية تزيد معاناة الشعوب.
النشأة
وتعود نشأة الصندوق إلى مؤتمر بريتون وودز عام 1944، حين اجتمعت 44 دولة لوضع أسس نظام مالي عالمي جديد يمنع تكرار الكساد الكبير الذي ضرب الاقتصاد العالمي في ثلاثينيات القرن الماضي. وكانت الفكرة الجوهرية هي إنشاء مؤسسة تضمن استقرار أسعار الصرف، وتساعد الدول عند مواجهة أزمات ميزان المدفوعات، وتدعم التعاون النقدي الدولي. وفي ديسمبر/كانون الأول 1945 بدأ الصندوق عمله رسمياً بعضوية 29 دولة، قبل أن يتوسع تدريجياً ليضم اليوم 190 عضواً.
الهدف
ويتمثل الهدف المركزي للصندوق في الحفاظ على استقرار النظام النقدي العالمي، وهو النظام الذي يحكم أسعار الصرف والتدفقات المالية والتجارية بين الدول. ويتفرع عن هذا الهدف مجموعة من المهام تشمل توفير السيولة للدول التي تواجه نقصاً في احتياطاتها الأجنبية، ومراقبة الاقتصاد العالمي وتقديم الاستشارات الفنية، وتعزيز التعاون الدولي وتسهيل التجارة، إضافة إلى دعم النمو الاقتصادي وتخفيف حدة الأزمات المالية. ولا يكتفي الصندوق بالإقراض، بل يلعب دور الوصي على النظام المالي العالمي، حيث يقوم بإصدار تقارير دورية مثل آفاق الاقتصاد العالمي والرقابة المالية العالمية، وهي تقارير تُعد مرجعاً أساسياً لصناع القرار والمستثمرين.
ويقوم الصندوق على هيكل إداري يعكس توازنات القوى الاقتصادية في العالم. فمجلس المحافظين هو السلطة العليا ويمثل كل دولة عادة وزير ماليتها أو محافظ البنك المركزي، بينما يشرف المجلس التنفيذي الذي يضم 24 مديراً تنفيذياً على السياسات اليومية، ويتولى المدير العام القيادة التنفيذية.
ومنذ تأسيسه جرت العادة أن يكون المدير العام أوروبياً، بينما تظل الولايات المتحدة صاحبة النفوذ الأكبر إذ تمتلك نحو 16.5% من حقوق التصويت، ما يمنحها حق الفيتو الفعلي في القرارات المصيرية.
التمويل
أما من الناحية التمويلية يعتمد الصندوق أساساً على حصص الاشتراك التي تسددها الدول الأعضاء وفقاً لحجم اقتصادها، وهذه الحصص تحدد أيضاً حجم الاقتراض المسموح لكل دولة. وإلى جانب ذلك يمتلك الصندوق أداة فريدة تسمى حقوق السحب الخاصة، وهي أصل احتياطي دولي يستخدم لتعزيز السيولة بين البنوك المركزية. وفي أوقات الأزمات الكبرى يلجأ الصندوق إلى ترتيبات اقتراض إضافية لزيادة موارده، ما يجعله يمتلك قدرة تمويلية تصل إلى نحو تريليون دولار.
على مدار تاريخه لعب صندوق النقد الدولي أدواراً محورية في إدارة الأزمات الاقتصادية العالمية. فقد كان في قلب أزمة ديون أمريكا اللاتينية في الثمانينيات، حيث قدّم برامج إنقاذ مقابل التزامات بالإصلاح الهيكلي. وفي الأزمة الآسيوية 1997-1998 تدخل ببرامج ضخمة لإنقاذ تايلاند وإندونيسيا وكوريا الجنوبية. وخلال الأزمة المالية العالمية عام 2008 لعب دوراً بارزاً في دعم اقتصادات أوروبا الشرقية مثل أيسلندا وأوكرانيا. أما في جائحة كوفيد-19، فقد تحرك سريعاً ليضخ أكثر من 100 مليار دولار عبر آليات التمويل الطارئ، معتبراً نفسه خط الدفاع الأول في مواجهة التداعيات الاقتصادية للوباء.
انتقادات
ورغم هذه الأدوار، فإن الصندوق يظل عرضة لانتقادات متكررة، خصوصاً فيما يتعلق بشروطه الصارمة. إذ يرى منتقدوه أنه يفرض على الدول المقترضة برامج تقشفية تشمل خفض الإنفاق العام، تقليص الدعم، وتحرير أسعار الصرف، وهي سياسات كثيراً ما أدت إلى احتجاجات شعبية واتهامات بزيادة الفقر والبطالة. كما يُتهم الصندوق بأنه أداة للنفوذ الغربي، حيث تعكس آليات التصويت داخله اختلال موازين القوى العالمية، إذ تمتلك الاقتصادات المتقدمة نصيب الأسد من الأصوات بينما تعاني الدول النامية من ضعف التمثيل.
ولمواجهة هذه الانتقادات اتجه الصندوق خلال العقد الأخير إلى إصلاحات في الحوكمة، كان أبرزها زيادة حصص بعض الدول النامية والصاعدة مثل الصين والهند والبرازيل. كما بدأ يوسع أجندته لتشمل قضايا غير تقليدية مثل التغير المناخي والرقمنة المالية وحوكمة المؤسسات. وفي سياق جائحة كورونا حاول الصندوق التخفيف من شروطه، حيث منح بعض الدول دعماً سريعاً دون الدخول في مفاوضات معقدة.
واليوم، ومع تزايد التحديات العالمية من الحروب التجارية والتغير المناخي إلى التقلبات المالية، يواجه صندوق النقد الدولي اختباراً صعباً. فإما أن يثبت قدرته على التكيف مع عالم متعدد الأقطاب ويمنح صوتاً أكبر للدول النامية، أو أن يتعرض لمزيد من الانتقادات التي قد تهدد مكانته كمحور رئيسي للنظام المالي الدولي.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMjE3IA== جزيرة ام اند امز