نشب في أواخر شهر نوفمبر الماضي خلاف حاد بين فرنسا وإيطاليا حول استقبال السفينة "أوشن فايكينج" التي تحمل مهاجرين غير شرعيين.
الحادثة لم تكن سوى الشرارة التي كشفت عن عمق الخلاف بين البلدين حول طريقة معالجة قضية الهجرة غير الشرعية بما يتضمنه من ملفات مهمة وخطيرة على المستوى الأوروبي. منها اللاجئين وحقوق الإنسان والهوية الأوروبية بما فيها من تجانس مجتمعي واتساق قيمي.
والحاصل أوروبياً، أن كافة المسائل باتت تتداخل وتنعكس بالتالي على كافة المجالات. فقد وجدت فرنسا نفسها مضطرة إلى استقبال السفينة "أوشن فايكنج" التي تحمل 230 مهاجراً، بسبب رفض إيطاليا استقبالها وتركها بمن عليها أسبوعين في البحر. فقررت باريس تعليق استقبال فرنسا 3500 لاجئ موجودين في إيطاليا كان من المقرر نقلهم إلى فرنسا الصيف المقبل. وفقاً للاتفاق الأوروبي المبرم في يونيو الماضي حول تنظيم عملية استقبال موجات المهاجرين وتوزيعهم فيما بين الدول الأوروبية.
هذا الخلاف دفع فرنسا إلى دعوة الاتحاد الأوروبي لمراجعة وتقييد صرف مخصصات مالية مقررة لإيطاليا ضمن خطة التعافي من جائحة كورونا. وهو ما يعني مزيداً من الضغوط الاقتصادية على روما.
من منظور سياسي، يجسد هذا التوتر بين روما وباريس أحد التبعات المتوقعة لوصول جورجيا ميلوني الزعيمة اليمينية المتطرفة إلى رئاسة الحكومة الإيطالية. ما يجعل التطورات الداخلية وميل الشعوب الأوروبية إلى القومية والأحزاب اليمينية، مقدمة لمزيد من الخلافات والتناقضات بين الأوروبيين.
وليست إيطاليا وحدها التي ستتبع بقيادة ميلوني سياسات مختلفة، تحديداً سياسات يمينية ونزعة قومية متطرفة. ففرنسا نفسها تقترب من نفس الوضع، بل كادت تدخل قصر الإليزيه في الانتخابات الرئاسية ماري لوبان وهي يمينية متطرفة بشدة ضد المهاجرين بل وكل من هو غير فرنسي بشكل عام.
والمقلق، أن مد القومية الأوروبية اليمينية يزحف سريعاً ويتجه إلى السيطرة على الواقع المجتمعي وبالتالي السياسي في أوروبا كلها، والمؤشرات واضحة دول أخرى خلاف إيطاليا وفرنسا، منها ألمانيا، التي تعرضت إلى محاولة انقلابية للبرلمان الأسبوع الماضي، والنمسا وبلجيكا وهولندا. والأرجح أن بقية الدول الأوروبية تسير في نفس الاتجاه وإن كان ببطء.
السياسات الأوروبية تجاه قضية الهجرة واللاجئين تعاني الكثير من التردد والتناقض، والفجوة كبيرة بين المقررات الجماعية وما تمارسه بالفعل الدول الأوروبية كل على حدة. وما تقرره أوروبا جماعياً من قرارات لا تحظى بإجماع. خاصة من جانب دول "الصف الأول" التي تستقبل موجهات الهجرة غير الشرعية. وهي تحديداً إيطاليا واليونان ومالطا وقبرص واسبانيا. فهي في المواجهة دائماً مع عشرات الآلاف من المهاجرين سنوياً. وتتهم بقية دول الاتحاد الأوروبي بتركها وحيدة في تلك المعركة المستمرة، والتنصل من الالتزامات السياسية والاقتصادية والتخلي عن القيم والمبادئ الأخلاقية في هذه القضية.
والحقيقة إن أوروبا كلها بما فيها تلك الدول المستقبلة، تعاني تناقضاً كبيراً في مواقفها وسياساتها تجاه قضية الهجرة. فهي جميعاً تتبع مقاربات ضيقة محصورة بين المحددات والدوافع الاقتصادية لدى الدول المستقبلة، والدواعي الأمنية والسياسية لدى بقية دول أوروبا التي تخشى من تدفقات اللاجئين داخلها وتداعيات انتشارهم على الأوضاع الأمنية وعلى النسيج الاجتماعي الداخلي.
وتتجاهل أوروبا كلها تقريباً البعد الإنساني وتسقط من حساباتها المقاربة الأخلاقية في هذه القضية. بل ثمة خللاً مبدئياً لدى الأوروبيين، وهو أنهم يتعاطون مع قضية الهجرة في نتيجتها وتطورها الأخير، أي هروب المهاجرين من بلدانهم. ولا يبحثون عن علاج لجوهر المشكلة أو حلول لأسباب ذلك الهروب. وأسبابه واضحة وتطرحها الدول المصدرة للمهاجرين باستمرار. وهي تردي الأوضاع الاقتصادية والمعاناة التي يتكبدها المجتمعات التي يخرج منها المهاجرون بحثاً عن حياة أفضل لهم ولأسرهم.
وبدلاً من مساعدة دول جنوب البحر المتوسط على مواجهة تلك المشكلة من جذورها والارتقاء بأوضاعها وأحوال شعوبها، يكتفي الأوروبيون بالتصدي لنتائج المشكلة وتبعاتها بعد أن تصل موجات الهجرة إلى شواطئهم.
الأجدى بالأوروبيين بدلاً من التراشق السياسي والإعلامي وتبادل الاتهامات، التنسيق والتفاهم وتوحيد السياسات ووضع خطة شاملة وموحدة وجماعية لإنهاء الأوضاع المنتجة للهجرة في دول المنبع. وهي بالتأكيد مهمة أسهل كثيراً سواءً في إطار الاتحاد الأوروبي أو على مستوى الحكومات الأوروبية منفردة. لأنها لن تكون سبباً للخلاف سواء من الأحزاب أو القوى اليمينية داخل المجتمعات الأوروبية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة