تُنشئ هذه الاتفاقية أكبر سوق تجاري حر في العالم يفوق حجمه مثيله في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فعدد سكان دول الاتفاقية 2.2 مليار شخص أي نحو 30% من سكان الكرة الأرضية، وتُمثِّل اقتصاداتها 30% من إجمالي حجم الناتج المحلي العالمي، و28% من حجم التجارة
في يوم الأحد الماضي 15 نوفمبر2020، تم توقيع اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، التي وضعت الأساس لإنشاء أكبر منطقة تجارة حُرة في العالم والتي سوف يكون من شأنها تغيير ميزان القوى التجارية والاقتصادية الدولي. تُمثِّل هذه الاتفاقية انتصاراً صينياً يزيد من فرص نموها الاقتصادي وزيادة دورها ونفوذها في أرجاء المعمورة.
وأكدت هذه الاتفاقية المفارقة التي تطورت في السنوات الأربع الأخيرة في عهد الرئيس ترامب، فبينما تبنَّت الولايات المتحدة، وهي أكبر اقتصاد رأسمالي، سياسات اقتصادية حمائية وأُحادية واستخدمت سلاح الرسوم الجمركية كأداة للضغط على شركائها التجاريين، رفعت الصين التي يحكمها الحزب الشيوعي لواء حرية التجارة الدولية وإزالة القيود أمام التبادل التجاري الحر بين الأسواق. وهو المعنى الذي أكده رئيس مجلس الدولة الصيني عندما ذكر أن توقيع الاتفاقية لا يُمثِّل إنجازاً للتعاون الاقتصادي بين دول شرق آسيا وحسب، بل إنه انتصاراً للتعددية والتجارة الحُرة. وفي تقرير أصدره معهد بروكينجز الأمريكي يوم 16 نوفمبر، ورد أن تطبيق الاتفاقية يمكن أن يؤدي إلى زيادة في الدخل العالمي بمبلغ 209 مليارات دولار، وفي حجم التجارة الدولية بمبلغ 500 مليار دولار سنوياً مع حلول عام 2030.
تم توقيع هذه الاتفاقية بعد مفاوضات دامت ثمانية أعوام في مؤتمر افتراضي استضافته فيتنام لقادة خمس عشرة دولة آسيوية، شملت الصين واليابان وأستراليا ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية ودول رابطة جنوب شرق آسيا العشرة (الآسيان). وهي دول على درجات مختلفة من النمو الاقتصادي، وتتنوع نظمها السياسية والدستورية. ومع أن الهند شاركت في هذه المفاوضات إلا أنها لم توقع الاتفاقية بسبب مخاوفها من تدفق المنتجات والسلع الصينية
ونصَّت الاتفاقية على إلغاء الرسوم الجمركية على بعض السلع فوراً، وتخفيضها على أغلب السلع المتبادلة بين دولها تمهيداً لإلغائها تماماً في خلال عشرين سنة، وإطلاق حرية تبادل العديد من الخدمات بينها، وتعزيز سلاسل التوريد حسب قواعد منشأ مشتركة، كما وضعت قواعد لتشجيع الاستثمارات. وسيؤدي ذلك إلى سهولة انسياب الاستثمارات بين دول الاتفاقية وزيادة جاذبيتها للاستثمارات من خارجها، مما يعزز نمو التجارة وفرص العمل والتكامل الاقتصادي الإقليمي في آسيا والمحيط الهادئ. وأشارت الاتفاقية إلى فرص التعاون في مجالات الملكية الفكرية والتجارة الإلكترونية والتعاون التكنولوجي، ولكنها لم تُشر إلى موضوعيْ حماية البيئة وحقوق العمال.
وكان لتوقيت توقيع الاتفاقية دلالة مهمة، ففي الوقت الذي انشغلت فيه دول العالم بمواجهة انتشار الموجة الثانية لوباء فيروس كورونا، وتركيزها على حماية نفسها في سياق اقتصاد دولي يتسم بحالة من الكساد والانكماش التجاري، فإن دول شرق آسيا تتطلع إلى المستقبل وتفتح أبواباً جديدة لنموها الاقتصادي، وتعتبر أن توقيع هذه الاتفاقية يسرع من تعافي اقتصاداتها في مرحلة ما بعد كورونا ويدعم خروج الاقتصاد العالمي من عثرته.
تُنشئ هذه الاتفاقية أكبر سوق تجاري حر في العالم يفوق حجمه مثيله في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فعدد سكان دول الاتفاقية 2.2 مليار شخص أي نحو 30% من سكان الكرة الأرضية، وتُمثِّل اقتصاداتها 30% من إجمالي حجم الناتج المحلي العالمي، و28% من حجم التجارة العالمية وفقاً لبيانات 2019 كما تُمثِّل عنصر الحركة والدينامية في الاقتصاد العالمي، خاصة أنها تضم الصين والفلبين وإندونيسيا وماليزيا وتايلاند أي نصف الدول العشر الأكثر نمواً في العالم لعام 2019.
ومع أن هذه الاتفاقية ذات طابع تجاري واقتصادي في الأساس، فإن دلالاتها السياسية لا تُخطئها العين. فهي من ناحية أولى، تُعتبر فوزاً للدبلوماسية الصينية التي نشطت من أجل التوقيع على الاتفاقية، مما يدعم من طموحاتها الجيوسياسية الإقليمية الأوسع، ويزيد من دورها في وضع القواعد المنظِّمة للتجارة الآسيوية. وهي من ناحية ثانية، تُمثِّل اختراقاً للصين في علاقاتها بدول حليفة لأمريكا، فقد كانت الاتفاقية هي المرة الأولى التي توصلت فيها الصين إلى اتفاق لخفض الرسوم الجمركية مع اليابان وكوريا الجنوبية، ويزداد تقدير الإنجاز الصيني في ضوء وجود خلافات سياسية بينها وبين اليابان وأستراليا. وهي من ناحية ثالثة، تعزِّز الحجة الصينية بأن التعاون الدولي وتبادل المنافع، وليس الأحادية وإثارة الفرقة والنزاعات، هما طريقا التنمية وحفظ الأمن والسلام، وأن التضامن بين الشعوب هو السياسة الصحيحة في مواجهة التحديات العالمية الراهنة.
وبالطبع، فإن هذه الاتفاقية لن تُنفَّذ بين عشيةٍ وضحاها، فذلك يتطلب التصديق عليها وفقاً للنظم الدستورية في الدول التي وقَّعت عليها، والدخول في تفاصيل إجراءات التنفيذ مثل الاتفاق على معايير شهادة "المنشأ" للسلع التي يتم تبادلها، ووضع الدول التي تمنح تمييزات جمركية لدول أخرى خارج الاتفاقية.
كما أنه يتوقف على رد الفعل الأمريكي وسياسة الرئيس المنتخب بايدن، فقد كان من شأن قرار ترامب عام 2017 بالانسحاب من معاهدة الشراكة عبر المحيط الهادئ تقليل نفوذ واشنطن لإيجاد التوازن مع الدور المتصاعد للصين في شرق آسيا. ولم يغير من هذا الأمر تصعيد واشنطن للحرب التجارية مع الصين واستمرار انتقاداتها الشديدة لها والتي كان من أحدثها ما ذكره وزير الخارجية بومبيو في محاضرة له بمعهد رونالد ريجان يوم 10 نوفمبر 2020 من أن الحزب الشيوعي الصيني يُمثِّل أكبر تهديد للحرية في العالم.
فهل يتغير النهج الأمريكي تجاه التجارة في آسيا؟ أم يكون للصين بحكم ثقلها الاقتصادي وحجم سوقها الدور الأكبر في وضع قواعد التجارة الإقليمية في القارة؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة