الهند وباكستان.. المراوحة بين الصراع منخفض الحدة والتطبيع دون تسوية
رغم ما يستند إليه سيناريو الصراع منخفض الحدة بين الهند وباكستان من أسانيد قوية، لكن هذا لا يمنع حدوث تحول في مسار العلاقات بين البلدين.
في تطور مهم مثل تحولا في نمط التفاعلات الهندية-الباكستانية عقب عملية "جيش محمد" في الرابع عشر من فبراير الماضي (2019) داخل القسم الواقع تحت السيطرة الهندية من كشمير، شهد يوم الخميس الماضي (14 مارس) اجتماع فرق تقنية وقانونية من البلدين بمدينة "أتاري" الهندية، لوضع اللمسات الأخيرة حول مشروع اتفاق ممر "كارتاربور "Kartarpur لتنظيم عبور أقلية السيخ الهندية ووصولهم إلى معبد "غورداوارا داربار صاحب "Gurdwara Darbar Sahib داخل إحدى القرى الحدودية الباكستانية، دون الحصول على تأشيرة مسبقة.
الاجتماع لم يُعقد على مستوى القيادات السياسية العليا، أو رؤساء الحكومات أو حتى المستوى الوزاري، حيث ترأس الوفد الباكستاني رئيس إدارة جنوب آسيا والسارك بوزارة الخارجية، وترأس الوفد الهندي "السكرتير المشترك" بوزارة الداخلية؛ لكن مع ذلك، فإن الاجتماع يحمل دلالات مهمة بالنسبة لمسار الأزمة الأخيرة، ودلالات أكثر أهمية بالنسبة للسيناريوهات المحتملة لعلاقات البلدين خلال الفترة المقبلة.
وعلى الرغم من أن الأزمة الأخيرة الناتجة عن عملية 14 فبراير، وما ترتب عليها من تصعيد خطير من جانب طرفي الصراع، تفتح المجال أمام سيناريوهات ذات طابع صراعي، لكن لقاء 14 مارس يفتح هو الآخر المجال أمام سيناريو آخر تعاوني.. هذا المقال يطرح سيناريوهين مختلفين، ويناقش فرص كل منهما.
تدشين صراع منخفض الحدة
لقد ظلت هناك فرضية سائدة في حقل العلاقات الدولية مفادها أن امتلاك السلاح النووي يخلق حالة من الردع المتبادل، يحول بدوره دون دخول القوى النووية في صراعات عسكرية تقليدية مباشرة، خوفا من تحول هذا الصراع إلى حرب نووية.
وفي المقابل، تأخذ هذه الصراعات -حال حدوثها- شكل الحروب بالوكالة خارج الأقاليم المباشرة لهذه الأطراف، وقد دعم هذه الفرضية غياب المواجهات المباشرة بين أي من القوى النووية القائمة، واعتمادها بالأساس على الوكلاء المحليين والإقليميين في حسم عديد من الصراعات والأزمات الإقليمية.
وقد ظلت هذه الفرضية صالحة أيضا فيما يتعلق بالصراع التاريخي بين الهند وباكستان، فبينما شهدت مرحلة ما قبل امتلاك السلاح النووي ثلاثة حروب نظامية أساسية (1947، 1965، 1971)، لم تشهد مرحلة ما بعد امتلاك السلاح النووي إلا مواجهة محدودة في عام 1999 (أزمة كارجيل)، في دلالة واضحة على وجود درجة ارتباط مهمة بين امتلاك طرفي الصراع السلاح النووي وغياب الحروب المباشرة.
وعلى الرغم من تكرار الأزمات السياسية بين البلدين منذ نهاية 2001 بسبب تزايد نشاط التنظيمات الإرهابية (التي تعمل داخل الأراضي الباكستانية وإقليم كشمير الواقع تحت السيطرة الباكستانية)، ونجاحها في تنفيذ عديد من العمليات ضد مؤسسات ومنشآت هندية، بدءا من عملية البرلمان الهندي (ديسمبر 2001)، وانتهاءً بعملية فبراير 2019، ومرورًا بعملية مومباي (نوفمبر 2008) التي استهدفت عددا من الفنادق والمطاعم والمستشفيات ومحطات القطارات، والتي راح ضحيتها أكثر من 190 شخصا وجرح المئات، وعدد من العمليات الأخرى خلال عامي 2016/ 2017 داخل القسم الواقع تحت السيطرة الهندية من كشمير، لكن ظلت هذه الأزمات تحت السيطرة -بفعل عوامل عديدة- ولم تتحول إلى حروب أو مواجهات عسكرية مباشرة، وذلك في دلالة واضحة أيضا إلى وجود درجة ارتباط مهمة بين امتلاك السلاح النووي وعدم تحول هذه الأزمات إلى مواجهات عسكرية مباشرة، على الرغم مما نتج عن بعض العمليات السابقة من سقوط عدد كبير من الضحايا، واستهدافها في حالات أخرى عسكريين ومنشآت عسكرية هندية، فضلا عن الخطاب الهندي الذي يربط بين التنظيمات المنفذة لهذه العمليات والدولة الباكستانية ذاتها، وينظر إلى هذه التنظيمات على أنها إحدى الأدوات الباكستانية التقليدية والتاريخية لإدارة الصراع مع الهند.
هذه العوامل كان من الممكن توظيفها من جانب الهند لتكييف بعض هذه العمليات على أنها "عمل عدائي" مباشر من جانب الدولة الباكستانية ضد الهند، لكن هذا لم يحدث.
لكن الأزمة الأخيرة شهدت تحولا لا يمكن إغفاله فيما يتعلق بطبيعة المواجهات المباشرة المحتملة في ظل المرحلة النووية، وقد أخذ هذا التحول اتجاهين رئيسيين.
الاتجاه الأول، هو انتقال أحد طرفي الصراع (الهند) إلى القيام بإجراء منفرد ضد التنظيمات الإرهابية (موضوع الخلاف الشديد بين الجانبين، خاصة منذ عام 2001) داخل خط السيطرة على الجانب الباكستاني.
تأتي أهمية هذا الإجراء أنه يكرس محاولات هندية لمحاكاة تجربة الرد الأمريكي على هجمات سبتمبر 2001، من خلال تنفيذ عمليات "استباقية" داخل أقاليم باكستانية ضد التنظيمات الدينية ورموزها وبنيتها التحتية، فقد قامت الهند في 26 فبراير 2019 بتنفيذ عملية أمنية ضد ما وصفته بأكبر معسكر تدريب تابع لجماعة "جيش محمد" في منطقة بالاكوت الباكستانية يقوده يوسف أزهر (أسفرت عن مقتل عدد كبير من عناصر الجماعة، بالإضافة إلى قيادات ومدربين، وفقا للبيان الصادر عن وزارة الخارجية الهندية)، وذلك عقب توفر معلومات لدى الحكومة الهندية بتجهيز الجماعة لهجوم انتحاري جديد داخل الهند.
هذه العملية تمثل، من ناحية، امتدادا لتوجه هندي بدأ في التبلور خلال العامين الأخيرين، كان أحد مؤشراته ما حدث في 26 ديسمبر 2017 عندما قامت قوات الأمن الهندية بقتل قائد جماعة "جيش محمد" في كشمير (نور محمد تانتراي) عقب عمليات نفذتها الجماعة ضد منشآت هندية خلال عامي 2016، 2017.
كما أنها لم تكن، من ناحية أخرى، مجرد عملية انتقامية بقدر ما انطوت على بعد استباقي أيضا، وهو التوصيف نفسه الذي استخدمه البيان الصادر عن وزارة الخارجية الهندية في 26 فبراير بشأن العملية، عندما قال إن "هجوما استباقيا preemptive كان ضروريا للغاية"، وإعادة تأكيد هذا التوصيف مرة أخرى في بيان آخر في اليوم التالي) هذه العملية الهندية والتوصيف الهندي المستخدم لها يفتح المجال عن الحديث عن إمكانية تنفيذ الهند لعمليات مماثلة داخل الأراضي الباكستانية).. (وهو ما أشار إليه ضمنا البيان الصادر في 26 فبراير سالف الذكر).
الاتجاه الثاني، هو تحول الأطراف إلى تنفيذ عمليات عسكرية أكثر تصعيدا، فعلى العكس من ارتباط العمليات الإرهابية السابقة بردود فعل عسكرية لم تتجاوز تبادل إطلاق نار أو المدفعية بشكل محدود، فقد تبع عملية 14 فبراير توسعا ملحوظا في ردود الفعل العسكرية، شملت بالإضافة إلى العملية الأمنية الهندية ضد معسكر "جيش محمد"، استخدام سلاح الجو في 27 فبراير، نتج عنها سقوط طائرة هندية وأخرى باكستانية، وبعيدا عن التباين في روايات الطرفين حول هذه العملية، لكن الثابت هنا هو تحول الطرفين إلى استخدام سلاح الجو.
خلاصة القول، إن عودة الطرفين إلى نمط "الصراع منخفض الحدة" يظل أحد السيناريوهات المطروحة بقوة، ويدعم هذا السيناريو طبيعة ردود الفعل التالية لعملية 14 فبراير، وتحول الهند إلى استراتيجية "العمليات الاستباقية"، كما يدعمه أيضا وجود عدد من تنظيمات السلفية الجهادية التي تحتل قضية كشمير أولوية كبيرة بالنسبة لها، وعدم قدرة الحكومة الباكستانية -لأسباب عديدة- على القضاء على هذه التنظيمات أو تفكيكها؛ بل وعدم نجاح الجهود الهندية في إدراج مسعود أزهر (قائد جماعة "جيش محمد" المنفذة للعدد الأكبر من العمليات الإرهابية ضد المنشآت والمؤسسات وعناصر الجيش الهندي) على قائمة الأمم المتحدة للإرهابيين -رغم دعم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا- بسبب رفض بعض الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن.
هذه العوامل ستقوي دون شك من التوجه الهندي لاعتماد استراتيجية "العمليات الاستباقية"؛ الأمر الذي يفتح المجال أمام دخول طرفي الصراع مرحلة "صراع منخفض الحدة" في ظل امتلاك سلاح نووي.
وأخيرا، وليس آخرا، يدعم من هذا السيناريو أيضا بعض السياسات العالمية والإقليمية التي سيكون لها انعكاسها على إقليم جنوبي آسيا وعلى طرفي الصراع، بدءا من تصاعد حدة الخلافات الأمريكية- الصينية حول قائمة واسعة من القضايا، واحتمال انتقال الطرفين إلى سباق تسلح شديد (أحد مؤشراته -وفق بعض القراءات- انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى كخطوة ضرورية للتعامل مع الصعود العسكري الصيني والقدرات الصاروخية الصينية).
أضف إلى ذلك الانسحاب الأمريكي المتوقع من أفغانستان؛ الأمر الذي قد يحول الأخيرة إلى ساحة مهمة للصراع بين الطرفين كأطراف مباشرة أو كوكلاء لصراعات القوى الكبرى.
استئناف التطبيع دون تسوية تاريخية لمشكلة كشمير
على الرغم مما يستند إليه سيناريو الصراع منخفض الحدة من أسانيد قوية، لكن هذا لا يمنع حدوث تحول نوعي في مسار العلاقات الهندية-الباكستانية خلال الفترة المقبلة، في اتجاه سيناريو آخر لا يمكن استبعاده وهو العودة إلى عملية تطبيع شاملة بين الجانبين.
ويستند طرح هذا السيناريو إلى خبرة عملية التطبيع التي شهدتها علاقات البلدين خلال الفترة (منتصف 2003- نوفمبر 2008).
فعلى الرغم من حالة التوتر الشديد في العلاقات بين البلدين عقب بعض العمليات الإرهابية التي تم تنفيذها داخل الهند خلال عامي 2001، 2002، فوجئ المراقبون بإعلان رئيس الوزراء الهندي آنذاك آتال بيهاري فاجبايي في 18 أبريل 2003، وأثناء زيارته للقسم الواقع تحت السيطرة الهندية من كشمير "مد يد الصداقة إلى باكستان" واستعداد بلاده لاستئناف الحوار معها، تبع ذلك ترحيب باكستان بالمبادرة الهندية، ليبدأ الطرفان بعدها تطبيق سلسلة من إجراءات بناء الثقة خلال عامي 2003/2004، شملت عودة السفراء، واستئناف خطوط المواصلات البرية والجوية، وتبادل الوفود البرلمانية، وإطلاق سراح المسجونين، تلى ذلك إعلان الرئيس برفيز مشرف وقف جميع أنشطة التنظيمات الإسلامية المتشددة حول خط السيطرة، والالتزام بتفكيك جميع معسكرات التدريب القائمة، ثم الإعلان في منتصف مايو 2003 عن حظر قائمة جديدة من التنظيمات الإسلامية المتشددة وتقييد حرية حركة قياداتها، ثم إعلان رئيس الوزراء الباكستاني مير ظفر الله جمالي في 23 نوفمبر 2003 وقف إطلاق النار من جانب واحد عبر خط السيطرة، وقبول الهند هذه المبادرة في اليوم التالي مباشرة.
وتُوجت هذه الإجراءات بعقد لقاء قمة بين مشرف وفاجبايي في السادس من يناير 2004 على هامش قمة "سارك"، صدر عنها بيان مشترك تضمن تعهد باكستان عدم السماح باستخدام "أي أراضٍ تقع تحت السيطرة الباكستانية" لدعم الإرهاب بأي شكل من الأشكال، وتأكيد القيادتين أن الحوار البناء سوف يقود إلى التسوية السلمية لجميع القضايا الثنائية بما في ذلك مشكلة كشمير بشكل يرضي الطرفين، وإلى تحقيق السلام والأمن والتنمية الاقتصادية لشعبي البلدين، بالإضافة إلى الاتفاق على عقد أول جولة لهذا الحوار في فبراير 2004.
هذه التحول المفاجئ دشن ليس فقط لعملية تطبيع شاملة، لكنه جر الطرفين إلى مناقشة بدائل لتسوية "سياسية" لمشكلة كشمير، ووصل التحول عن الموقف الباكستاني التقليدي إلى حد إعلان الرئيس مشرف استعداده لقبول تسوية "سياسية" لهذه المشكلة التاريخية بعيدا عن بديل الاستفتاء؛ لكن هذه العملية انهارت بشكل كامل عقب هجمات مومباي في نوفمبر 2008.
وهكذا، وفي ضوء خبرة هذا التحول، وما تبعه من تدشين لعملية تطبيع مهمة استمرت لأكثر من أربع سنوات، لا يمكن استبعاد تحول طرفي الصراع مرة أخرى إلى تدشين عملية مماثلة خلال الفترة المقبلة، وكما توجد مؤشرات عدة تدعم سيناريو التحول إلى "الصراع منخفض الحدة"، هناك أيضا مؤشرات تدعم سيناريو "التطبيع"، أبرزها خبرة التفاوض حول مشروع ممر "كارتاربور" المشار إليها في صدر هذا المقال، إذ لا يستقيم تدشين مثل هذا الحوار في أجواء صراعية دون أن يكون خطوة أولى لاختبار إمكانية بدء حوار أوسع نطاقا، قد يكون مقدمة لعملية تطبيع شاملة.
وكان لافتا للنظر تصريح د. محمد فيصل، رئيس الفريق الباكستاني المشارك في محادثات 14 مارس، أن هذه المحادثات تُعد خطوة أولى جديدة إزاء إحلال سلام مستدام في جنوب آسيا، وأن ممر "كارتاربور" هو رسالة باكستان للسلام.
ولا يقلل من فرص هذا الاحتمال سيطرة حزب بهاراتيا جاناتا (القومي الهندوسي) على السلطة بقيادة ناريندرا مودي، ذلك أن حكومة بهاراتيا جاناتا بقيادة فاجبايي هي التي كانت قد أطلقت شرارة عملية التطبيع في عام 2003؛ لكن ليس من المتوقع أن ينتهي هذا السيناريو -إذا ما تحولت إليه الأطراف بالفعل- إلى تسوية لمشكلة كشمير، ذلك أن تحقيق هذه التسوية لا يزال مرهونا بحدوث تحولات جوهرية في مواقف المؤسسة العسكرية على الجانبين، وتحييد القوى الدينية المتشددة الرافضة لمثل هذه التسوية، سواء الإسلامية أو الهندوسية.
** الدكتور محمد فايز فرحات خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.