من الحكم التاريخية التي تنسب إلى مصادر متنوعة يونانية ومسيحية وإسلامية؛ حكمة تقول "إن الله خلق الملاك من عقل بلا شهوة، وخلق الحيوان من شهوةٍ بلا عقل، وخلق الإنسان من الاثنين معاً".
فمن انتصر عقله على شهوته أصبح أعظم من الملاك، ومن انتصرت شهوته على عقله صار أحط من الحيوان، ومن وازن بين الاثنين كان إنساناً فاضلاً.
والإنسان في سعي دائم للترقي في سلم القيم ليكون إنساناً فاضلاً يطمح إلى الاقتراب من الملاك، والبعد عن الحيوان، وفي سبيل ذلك يخضع غرائزه لسلطان عقله، لأن الغرائز أو الشهوات لا يمكن بأي حال من الأحوال إلغاؤها أو إنكارها، ولكن غاية جهد الإنسان أن يتحكم فيها من خلال معايير العقل الذي هو من تجليات روح الله في الإنسان التي نفخها في آدم، ومنه سرت إلى بني آدم إلى يوم الدين.
والتحكم في الغرائز هو ما يجعل الإنسان إنساناً، ودون ذلك ينحدر الإنسان إلى مستوى البهائم تقوده غرائزه وشهواته المتنوعة والمتعددة؛ التي تبدأ من شهوات البطن والجنس، وتصل إلى شهوات السيطرة، والحكم، والغضب، والانتقام، والتشفي.. إلخ.
ومن الثابت في التاريخ أن الظلم يضعف طاقات العقل عند الإنسان ويحجمها؛ لأنه يحاصرها ويشكك فيها ويعتبرها العدو الأول له، لذلك فإن المجتمعات التي تعيش في ظله لفترات طويلة تنحدر من مستوى الإنسان إلى مستويات الحيوان، حيث تغلب عليها الشهوات والغرائز، ويضعف فيها سلطان العقل، وتصير مجتمعات غرائزية وشهوانية.
والمتأمل في حالة العديد من المجتمعات العربية يجد أن المشكلة الكبرى فيها هي التفكير الغرائزي الحيواني الذي أصبح هو السمة الغالبة على تصرفات الخاصة والعامة، وفي كل مجالات الحياة، وهو أساس كل الأزمات التي تعاني منها الدولة والمجتمع.
ويكفي أن نتابع نشرات الأخبار سنجد أن العقل قد غاب أو تراجع لتحل محله غرائز العنف والقتل والانتقام، وانعدام الرحمة.
وكذلك نجد أن شهوة المال وما يتفرع منها من جشع وطمع واستغلال صارت هي أساس الأزمات الاقتصادية من رغيف الخبز إلى كل شيء، حيث يتجرد الإنسان من آدميته، ويتاجر في آلام مجتمعه من أجل تضخيم أرقام ثروته.
وأخطر الغرائز والشهوات هي شهوة الغضب والانتقام والتشفي التي لا يمكن إشباعها مثل الغرائز الأخرى، والتي تزداد شراهة واشتعالاً كلما أوغل الإنسان في إشباعها، وللأسف صارت هذه الغريزة الحيوانية تتحكم في العديد من المجتمعات العربية بصورة تراجع معها دور العقل، وقدراته على السيطرة أو التحكم، وصارت العلاقات الاجتماعية والسلوكيات السياسية تتحكم فيها هذه الغريزة التي لا شفاء منها، ولا علاج لها، فقد انفلت عقال الغرائز، وتوحشت الشهوات، وأصبح لا سبيل للشفاء منها إلا من خلال إفناء الخصم والقضاء عليه قضاء مبرماً، لا يبقي منه أثراً ولا يذر.
الكل يريد التخلص من الكل، والكل يكره الكل ويعادي الكل، حالة كارثية إذا ما تركت لتتفاقم ستؤدي إلى انتهاء مفهوم المجتمع بالمعنى الذي كانت تعرفه الإنسانية، والتحول إلى نموذج من الصراع الاجتماعي العميق، والممتد الذي شهدته دول تنقسم بصورة عميقة وعنيفة بين أديان أو أجناس متنافرة متصارعة.
ولا يمكن والحال هكذا الوصول إلى نقطة للمراجعة، والاعتراف بالخطأ، أو الرجوع إلى كلمة سواء، أو البدء من جديد، لأن ذلك الفكر الغرائزي المغلق تحكمه عقيدة "لا نجوت إن نجا"، أي أن وجودي يتوقف على زوال خصمي تماماً، ولن أنجو في هذه الحياة إذا نجا هو، أي أننا في معادلة صفرية، أحد الأطراف يكسب كل شيء، والآخر يخسر كل شيء، ولا ثالث بينهما.
هذه الحالة الغرائزية ينبغي أن يتم فتح النقاش العام حولها، لأن عوام الناس أصبحوا هم وقودها؛ سواء كانوا أدوات لهذه الحالة من حيث انتمائهم لأحد الأطراف أم ضحايا لها، وفي كلتا الحالتين هم ضحايا هذا الاستلاب الغرائزي الذي قادهم إليه خطاب ثقافي وديني همّش دور العقل، وأطلق الغرائز دون قيود أو حدود.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة