أزمة عميقة تعيشها المجتمعات العربية التي شهدت اندلاع ثورات الخريف العربي المشؤوم، أو انحازت لها، هي أزمة المثقفين وصناع الفكر أو تجاره.
حيث قد تكون صناعة الأفكار حلماً في هذا الواقع الشعبوي ذي الأسقف الفكرية القريبة من الرؤوس. تجلت هذه الأزمة في شغف أصحاب القلم، أو من يستطيعون الكتابة والتأثير في تبني الأفكار الحدية الطرفية المثالية؛ التي تعزلهم في مواقع بعيدة عن الواقع، وتحصرهم في دور الناقد أو الناقض، الذي لا يوظف النقد للإصلاح ولكن للهدم.
فقد أدى انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وظهور مقاييس جديد لمكانة وتأثير المثقفين والكتاب؛ وهي عدد المتابعين والمشاركات والإعجاب، وهذا بدوره جعل العوام أصحاب سطوة على المثقف، لأنهم هم من يعطونه الوزن والمكانة التي يتنافس بها مع أقرانه في نفس الشريحة أو الطبقة الثقافية، ويتحدد طبقا لها حضوره الإعلامي في الصحف والفضائيات سواء من خلال الحضور الفعلي في البرامج أو من خلال نقل منشوراته على مواقع التواصل المتنوعة، بحيث يتحول الواحد منهم إلى مصدر للأخبار والأفكار والآراء التي تحدد توجهات المجتمعات والدول بحكم كونه من المؤثرين على تلك المواقع.
في ظل هذه الحالة المأزومة للمثقفين ظهر تيار واسع من مثقفي الضفة الأخرى، الذين يعيشون هناك في الجانب الآخر من النهر أو البحر، يرون المجتمع الذي ينتمون إليه ليس من داخله وإنما من بعيد، من الضفة الأخرى، فتكون رؤيتهم متعالية منفصلة عن الواقع، منطلقة من مثاليات أو أفكار مجردة عند القليل منهم، ومن احتقار ورفض واشمئزاز عند الكثيرين. وفي كلتا الحالتين يكون المثقف منفصلاً عن المجتمع رغم أنه يعيش فيه، ويذوق الأمرين من مآسيه، ولكنه انفصال شعوري، أو عزلة شعورية مثل تلك التي دعا إليها سيد قطب في كتابه معالم في الطريق لدفع إخوانه للانفصال عن المجتمع ثم مواجهته كعدو.
مثقفو الضفة الأخرى برزوا بصورة واضحة بعد ثورات الخريف العربي المشؤوم، وما تبعها من ظهور "شلل" ثقافية ترتبط بوسائل إعلام، ومراكز أبحاث، وجهات تمويل إقليمية أو دولية. هذه الشريحة من المثقفين لم تعرف من الثقافة إلا النقض وليس النقد. دور من ينتمي للطبقة الثقافية في نظرهم أن يكون معولا لهدم المجتمعات، وأن يركز بصورة دائمة على السلبيات، وأن يمارس النقض بصورة مستمرة، ولا يقدم في أي حالة أو لأي موقف البديل الذي يراه أكثر جدارة وجدوى.
المثقف في هذه الحالة بعيد عن الواقع، ينطلق من مثاليات غائمة، أو أفكار عامة، أو نماذج نجحت في مجتمعات أخرى، ومن خلالها يصب جام غضبه على مجتمعه دافعا من يتابعه إلى اليأس، وفقدان الأمل، والعجز، وانعدام لفعالية. كل ذلك لأنه لم ينطلق من معطيات الواقع، ومما هو ممكن ومتاح، ومن المعادلة الاجتماعية التي تصلح لهذا المجتمع وتنتشله مما هو فيه، أو تتقدم بها خطوات الى الأمام، ودراجات الأعلى.
ولا يقتصر دور مثقفي الضفة الأخرى على أولئك الذين يحترفون النقض، وينشرون ثقافة سوداوية يائسة؛ تبث في الوعي الجمعي حالة من الإحباط وفقدان الفعالية، وتجهض كل محاولات النهوض والتطور. وإنما هناك من مثقفي الضفة الأخرى فئة على العكس من ذلك تماما هم أولئك الذين يحترفون الدعاية والتسويق والتضليل والخداع، الذين يصيحون ليل نهار أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، أو هو كائن، الذين يفقدون ثقة واحترام الجماهير، لأنهم يشعرونهم أنهم يبيعون آلامهم ومآسيهم من أجل مصالحهم الشخصية.
مثقفو الضفة الأخرى هم كل من لا ينطلق من معطيات الواقع، وقيود الواقع، وإمكانيات الواقع، ومستوى وعي المجتمع، وقدرات الدولة، وطبيعة الجهاز الإداري .... الخ، هم أولئك الذين يفكرون في فراع، أو يتحركون فيما وراء فضاء جاذبية الأرض، ينتقدون، ويقترحون، ويعارضون من نقطة ثبات مجهولة التاريخ والجغرافيا، لا تنطلق من الزمان والمكان والإنسان الذي يوجد في مجتمعهم.
غاليا ما يكون كلامهم صحيحاً من حيث المنطق، والوعي الإنساني العام، ولكنه قد لا يكون صالحاً لمجتمعهم في هذا الزمان، وفي ظل تلك المعطيات والظروف، وفي هذا المستوى من وعي وتعليم وثقافة أفراد المجتمع. وقد أبدع المفكر الجزائري "مالك بن نبي" رحمة الله عليه؛ حين ألح على ضرورة التمييز بين "الصحة" و"الصلاحية" في كل ما يتعلق بالمجتمع والإنسان، وبالعلوم الاجتماعية والإنسانية، لأنه قد تكون الفكرة صحيحة، ولكنها ليست صالحة، وقد تكون صحيحة وصالحة لمجتمع معين، ولكنها ليس صالحة لمجتمع آخر.
وهكذا تكون النظم والمؤسسات الأفكار السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية الكبرى، فقد تكون صحيحة، ولكنها ليست صالحة لأنه فات زمانها، وتغير مكانها، وقد تكون صالحة في فترة معينة، وغير صالحة في فترة أخرى، أو صالحة في مجتمع معين، وغير صالحة في مجتمع آخر.
مثقفو الضفة الأخرى يحتاجون إلى أن يعبروا إلى الضفة التي يوجد فيها مجتمعهم؛ مسلحين بمنهجية التمييز بين الصحة والصلاحية، بحيث يبذلوا جهدهم في تحديد ماذا يصلح لمجتمعهم؛ لأن غاية الثقافة والفكر والعلوم هي إصلاح حال الإنسان المجتمع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة