لطالما كانت الأوضاع السياسية والاقتصادية في العالم العربي، سبباً رئيساً لهجرة الكفاءات العربية من أصحاب الشهادات العليا حول العالم، بحثاً عن الاستقرار المادي والمعنوي.
حتى انضم إليها عامل الأمن الذي فقد في بلدان عدة من الشرق الأوسط، ما أدى إلى ارتفاع أعداد المهاجرين، لا سيما الكفاءات التي لم تعمل بلدانهم على تمكينهم للإسهام في مستقبلها فيما تتنافس الدول على جذب أفضل المبدعين.
ورغم أن مشكلة الكثير من البلدان العربية هي في نقص الكفاءات وتراجع النخب، إلا أن الهجرات تتضاعف عاماً بعد عام، وترحل العقول إلى غير عودة – غالباً -، بسبب ما تجده من تقدير في بلدان أخرى، التي تدرك أهمية الفرد المبدع في عجلة التنمية، مهما صغر دوره.
إن الهجرة والتنقل ليس أمراً سلبياً بالضرورة، فهي تتيح تلاقي العقول وتشارك المعارف، لكنها في الحالة العربية ظاهرة استفحلت حتى كشفت بيانات مسح أجري مؤخراً عن رغبة قرابة نصف الشباب في دول عربية عدة في أن يهاجروا من بلدانهم.
وهنا نستذكر قصة أرودها في مذكراته الفيلسوف وعالم المنطق والمؤرخ برتراند أرثر راسل ( توفي في 1970) أحد أشهر وأهم الفلاسفة القرن العشرين، بسبب تعدد إسهاماته في النقاشات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والتعليمية، وهو بين قلة ممن أصبحت أسماؤهم معروفة للعامة، ففي عام 1918 وبسبب نشاطه المناهض للحرب العالمية الأولى، سجن راسل لمدة 6 أشهر، فيما كان يعمل محاضراً في كلية ترنيتي، وقد استغل بعض المحاضرين الذين كانوا يضمرون له الضغينة والعداء الشديد فترة سجنه ليجروا تصويتاً لحرمانه من منصبه كمحاضر وحين وضعت الحرب أوزارها، قام عدد من المحاضرين الشباب بالتصويت لإعادة راسل إلى منصبه، لكن راسل غير أفكاره في البقاء كمحاضر، وقرر الهجرة إلى خارج البلاد.
وهنا يطرح تساؤل.. كيف كانت نتاجات راسل من خلال الكلية لتصبح لو أنها سمحت لهذا الفيلسوف العبقري في الاستمرار لديها كمحاضر، وما هو أثر عدم إعطائه فرصته المناسبة في رحيله إلى بلد آخر ليبدع فيه ويكتب فيه أهم كتبه .. لا يمكن الجزم بالإجابة رغم أن برتراند راسل عاد سريعاً إلى بريطانيا مكرماً حيث احتفت به أهم الجامعات ومنح وسام الاستحقاق الملكي بعد أن فاز بجائزة نوبل.
وذات السؤال يطرح اليوم.. كيف ستكون بلدان عربية لو أنها استعانت برأس المال البشري الذي تمتلكه قبل أن يهاجروا، لا سيما الذين يحملون أفضل التخصصات في الطب والهندسة والعلوم، ممن يمكنهم المشاركة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والتقدم والازدهار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة