مشروع قانون سلامة الإنترنت في بريطانيا ضمن تشريعات ومراجعات عديدة تأجلت من العام الماضي بسبب أزمة حزب المحافظين الحاكم.
وقد أقر مشروع القانون مجلس العموم قبل أيام، وشرع في مساره تحت قبة "اللوردات"، على أمل أن يُحسم سريعا ويُسجل لصالح حكومة ريشي سوناك، التي رضخت لكل التعديلات المقترحة من نواب الحزب.
وأبرز عناوين مشروع القانون هو فرض عقوبة السجن سنتَين على أصحاب المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل حال فشلهم في منع نشر أي محتوى يضر بالأطفال.. ولكن إلى أي مدى يمكن فعلا التحكم فيما تتفجّر به الشبكة العنكبوتية؟ وهل ينطوي مشروع القانون على تقييد لحرية الرأي والتعبير في بريطانيا، كما يقول منتقدوه؟
القانون تغير كثيرا مقارنة مع صيغته الأولى، التي كان يتوجب التصويت عليها في البرلمان خلال يوليو الماضي.. وبات يحمل تشددا أكثر مما كان منتظرا.. كما يمنح هيئة مراقبة المحتوى الإعلامي -المعروفة باسم "أوفكوم"- صلاحيات واسعة لتنظيم الإنتاج الرقمي وتسويقه.. أما الذين يخالفون التشريع فيواجهون عقوبات بأنواع عدة.
التعديل الأخير، الذي طال قانون سلامة الإنترنت قبل إقراره في مجلس العموم، رضخت فيه الحكومة لمشيئة خمسين نائبا محافظا، من بينهم أندريا ليدزوم وبيل كاش وبريتي باتيل وإيان سميث، وأقرت إمكانية سجن المديرين التنفيذيين للمنصات الإلكترونية الذين يتقاعسون عن حماية الأطفال من كل ما يوصف بـ"المحتوى الضار".
وعقوبة السجن جعلت السماح أو التغاضي أو عدم الانتباه لنشر المعلومات المؤذية للأطفال، حتى ولو كانت قانونية، بمثابة جريمة جنائية يصعب جدا تجنب الوقوع فيها.
فالتشريع مُلغِز جدا من حيث الأدوات التي يمكن أن تكون فعالة في طمأنة أرباب المحتوى الإلكتروني وفق المبدأ القائل "عدم الوقوع في الخطأ يكفيك شر العقاب".
لم تصدر "أوفكوم" حتى الآن أي دليل أو إرشادات تساعد مديري المواقع والمنصات على تحديد كيفية حجب "المحتوى الضار" عن الأطفال.. ولكن إن جاءت التعليمات قاسية وشديدة التعقيد، فربما تضطر مؤسسات كبيرة في القطاع إلى مغادرة السوق البريطانية، أو تدفعها إلى المبالغة في تقييد وتقليص المواد الموجهة للأطفال خشية تسرب ما يمكن أن يضع المؤسسة وصاحبها أمام المساءلة القانونية والمحاكمة.
تطبيق القانون الجديد بصيغته الراهنة صعب جدا، وهذا ما يناقش اليوم عبر مجلس اللوردات.. ولعل الغرفة الثانية للبرلمان تخرج بمقترحات تجعل القانون أكثر مرونة.. خاصة فيما يتعلق بتجريم مديري المواقع ومنصات التواصل.. فيكون العقاب مثلا فقط في حال مخالفة تعليمات "أوفكوم" وليس في حال نشر محتوى يُصنف بـ"الضار".
"ضمان العمر" هو المصطلح الفني المعبر عن آلية التحقق من سن مستخدم الإنترنت.. وهذه الآلية بحد ذاتها قد تشكل تحديًا كبيرا، لأن التدقيق الصارم فيها، سواء عبر طلب الهوية أو استخدام مسح الوجه، قد يؤدي إلى إبعاد وتنفير المستخدمين، وضرب إيرادات الإعلان، التي تمثل شريان الحياة بالنسبة لشركات المحتوى الرقمي.
ولكي يزداد الأمر تعقيدا، تجبر الرقابة شركات "المحتوى الإلكتروني" على نشر إنذارات عدم التزام قواعد منع انتهاك سلامة الأطفال.. وبموجب القانون الجديد تتمتع "أوفكوم" بصلاحية حظر المواقع والمنصات المخالفة، أو فرض غرامات مالية عليها تصل إلى 18 مليون جنيه إسترليني، أو 10٪ من حجم أعمال الشركة حول العالم.. ما يعادل أكثر من 10 مليارات دولار بالنسبة لشركة "ميتا"، مالكة فيسبوك.
وتقول النائبة أندريا ليدسوم إن الشرطة تسجل أكثر من 3500 اعتداء جنسي إلكتروني على الأطفال شهريا.. كما أن أكثر من مليون طفل في المملكة المتحدة يستطيعون الوصول إلى مواد إباحية عبر الإنترنت.
كذلك توفر منصات التواصل الاجتماعي لليافعين معلومات كثيرة تساعدهم على الانتحار والموت، بل تحث عليه، وفق قولها.
وعلى الرغم من أهميته، لا يعتبر المحتوى الضار بالأطفال هو فقط ما يتوجب على المنصات والمواقع الإلكترونية إزالته وفق قانون "سلامة الإنترنت" الجديد، وإنما جميع ما يتعلق بقضايا الإرهاب والاستغلال الجنسي والتنمر والعنصرية بكل صورها، والتحرش، وقائمة طويلة من العلاقات غير السوية بين البشر، إنْ جاز التعبير.
"سلامة الإنترنت" سيُتيح أيضا للبالغين فرصة اتخاذ قرارات واضحة بشأن خدمات الإنترنت التي يحتاجون إليها.. واحترام هذه القرارات من قبل مزوّدي الخدمات هو السبيل لبناء الثقة بين الطرفين.. وإلا ستقف "أوفكوم" بالمرصاد لكل شركة تسوّل لها نفسها إغراق عملائها بباقات لا تنتهي من المعلومات والاشتراكات والمزايا والإعلانات.
محاربة الاحتيال الإلكتروني أيضا من مهام قانون الإنترنت الجديد.. وقد انتقد زعيم حزب العمال المعارض كير ستارمر، تأخر الحكومة في تمرير القانون إلى البرلمان لأشهر طويلة، ما جعل آلاف البريطانيين يقعون ضحية عمليات نصب، بينما كانوا يحاولون شراء الهدايا أو الاحتفال بعيد الميلاد وفعاليات شهر ديسمبر الماضي.
وتعول الحكومة كثيرا على القانون الجديد في محاربة عمليات الاحتيال عبر الإنترنت، ولكنها لن تكتفي به.. فقد قررت -وفق متحدث باسمها- إنفاق 400 مليون جنيه إسترليني على مدى ثلاث سنوات لتعزيز الاستجابة السريعة لوكالات إنفاذ القانون.. منوها إلى اكتشاف أكثر من 2.7 مليون عملية احتيال إلكتروني خلال العام الماضي.
في المحصلة، لن يكون التحدي الأصعب بالنسبة لشركات التكنولوجيا هو التعامل مع كل ما سبق.. وإنما كيفية إزالة كل أنواع "المحتوى الضار" دون التعرض لحرية التعبير، التي يجب أن تبقى مصونة بالقانون.
قد تكون هذه المهمة مستحيلة، ولكن لسان حال "سلامة الإنترنت" يقول إن "المستحيل لا يوجد إلا في قاموس الضعفاء".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة