ثمة حاجة مُلحة وواضحة للمهاجرين في المملكة المتحدة، خاصة بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي.
حكومات المحافظين المتعاقبة، من بوريس جونسون إلى ريشي سوناك، تعترف بذلك، ولكنها تريد حل الأزمة على طريقتها أو بـ"انتقائية".
يعارض حزب المحافظين الحاكم وصول المهاجرين بشكل غير شرعي. يريد أن يأتي بهم من بلادهم وفق شروط، كي لا تنفق الخزينة جنيها إسترلينيا واحدا عليهم.
يدخلون البلاد رسميا عبر بواباتها البرية والجوية والبحرية، وينخرطون في سوق العمل مباشرة.. يبدؤون دفع الضرائب من الشهر الأول، ولا يحصلون على إقامة دائمة وجنسية ومساعدات إلا بعد مرور خمس سنوات، عنوانها العريض حسن السيرة والسلوك.
يبدو التوجه مثاليا، ولكن الواقع غير ذلك لثلاثة أسباب:
الأول يتمثل في شروط صعبة تضعها الحكومة أمام الأجانب الراغبين في العمل داخل المملكة المتحدة، خاصة في تخصصات معينة.
أما السبب الثاني، فهي الكُلفة الكبيرة التي يحتاج إليها المهاجر لاستيفاء الشروط والوصول، ومن ثمّ العيش في بلاد يشكو سكانها ارتفاعا في كلفة المعيشة، وصعودا قياسيا في أسعار التضخم، وتآكلا في قيمة الأجور، وازديادا في معدلات الفقر.
التحدي الثالث والأبرز أمام "قوننة" الهجرة، هي السياسة الخاطئة في التعامل مع المهاجرين غير الشرعيين، والنظر إليهم كمتطفّلين يسعون إلى العيش على حساب الخزينة.
لا شك أن نسبة كبيرة من اللاجئين يعيشون على المساعدات المالية، ولكن هذا الأمر يقل مع الأبناء والأحفاد الذين يتعلمون في المدارس البريطانية، ويتربون على ثقافة العمل ودفع الضرائب والاجتهاد لتحصيل المناصب والوظائف المختلفة في المجتمع.
السؤال هو: هل المهاجرون يفضلون الكسل والتواكل والعيش على حساب البريطانيين؟
قلة يريدون ذلك فعلا.. ولكن الأغلبية يمضون نحو هذا الخِيار مدفوعين بأمرين اثنين:
الأول هو صعوبة الحصول على وظيفة مع ضعف الاهتمام الحكومي بتأهيل المهاجرين لسوق العمل.. والثاني هو معدلات الضريبة المرتفعة على الدخل.
في بعض التخصصات، كالطب بكل فروعه، يمكن أن يمضي المهاجر سنوات عديدة من أجل تعديل شهاداته للعمل في السوق البريطانية.. وفي رحلة التعديل الطويلة ينفق أموالا ضخمة لا تساعد الحكومة فيها بجنيه إسترليني واحد.
وبين الوصول والتعديل، إما أن يعمل الأجنبي في مهن أخرى، فينسى ما تعلمه وما عمله في بلاده، أو يعيش عالة على المساعدات الحكومية ويترك تخصصه كما ترك وطنه خلفه.
حتى اللغة الإنجليزية، لا تبذل الحكومة جهدا في تعليمها للمهاجرين. والمهاجر الذي يريد تعلمها مجانا لن يطال أكثر من ساعتين إلى 6 ساعات أسبوعيا في كليات التأهيل.. وبعدها إما أن يتعلم على حسابه، وإما يعمل بأجر زهيد في وظائف لا يعرف عنها شيئا، ولا تغريه بتحصيل مالي أو لغوي يطمح إليه، فيزداد الأمر عليه تعقيدا.
ولا نذيع سرا بالقول إن بريطانيا تضع معايير صارمة جدا للعمل والتعليم.. والوجه الآخر لهذا الأمر هو صعوبة العيش والاندماج في المجتمع بسبب هذه المعايير.. وخاصة بالنسبة للمهاجرين القادمين في سنّ متقدمة ولا يمكنهم التعلم في مدارس وجامعات المملكة المتحدة.. أما الأولاد والأحفاد فلا يوجد ما يصعب عليهم تحقيقه وبلوغه.
التجربة تقول إن أولاد المهاجرين صنعوا الكثير في بريطانيا.. اقتحموا جميع مجالات العمل والحياة وباتوا علامة فارقة يصعب تجاهلها.
الأمثلة على ذلك كثيرة، حتى داخل حزب المحافظين الحاكم.. فرئيس الوزراء نفسه ابن مهاجر.. وأيضا وزيرة الداخلية، التي تصف المهاجرين القادمين عبر البحر، بـ"الغزو" الذي يهدد أمن البلاد واقتصادها.
أولاد وأحفاد المهاجرين واللاجئين في المملكة المتحدة، باتوا يعملون ساسة ونوابا وأطباء وممثلين وإعلاميين وأكاديميين وعلماء وفلاسفة وأدباء، وغيرها من المهن والوظائف.. أثّروا وتأثروا بالثقافة العامة والمجتمع الذي يعيشون فيه.. وهم يحاربون المظاهر السلبية في البلاد، سواء أحدثها المهاجرون أو السكان الأصليون، تماما كما يفعل أصحاب البشرة البيضاء، الذين تجد بينهم أيضا مَن يفضّل البطالة والعيش على نفقة الدولة.
وزيرة الداخلية البريطانية، سويلا برافرمان، من أصول هندية. استقالت من حكومة ليز تراس قبل بضعة أسابيع بسبب مخالفتها القوانين.. وقد أعادها "سوناك" إلى منصبها بحُجة أنها "تضرب بيد من حديد الهجرة غير الشرعية وتحمي حدود البلاد".
أما جمعيات ومنظمات حقوق الإنسان، فتقول إن "برافرمان" "تعتقل" المهاجرين القادمين عبر البحر في مركز احتجاز يشكو سوء الظروف المعيشية والصحية، بينما "تحلم" الوزيرة بتلك اللحظة التي تُقلع فيها الطائرة المحمّلة بهؤلاء "الغُزاة" إلى رواندا.
الترحيل هو الطريقة الوحيدة، التي توصل إليها حزب المحافظين لمواجهة "غزو" المهاجرين.. حكومات الحزب المتعاقبة تقول إنها تميز في هذه السياسة بين اللاجئين إلى البلاد هربا من الموت، وبين من يبحثون عن التطفل والبطالة والعيش في ظل المساعدات.
ولكن التقارير المختصة تقول إن عملية الفرز هذه لا تتم في كثير من الأحيان، ونقلها إلى مراكز تجميع المهاجرين في رواندا الإفريقية يعني إطالتها لسنوات وسنوات.
الترحيل يكلف الخزينة مليارات الجنيهات سنويا تُقتطع من ضرائب البريطانيين.. وهذا يعني أن المهاجرين غير الشرعيين سيكلفون البلاد، سواء كانوا هنا أو في رواندا.. لكن الحكومة تقول إن الترحيل سيوقف مد الهجرة غير الشرعية، لأن المملكة المتحدة ستفقد جاذبيتها أمام الحالمين بجنة من الحياة المجانية والدعم المالي من الحكومة.
قد تبدو فكرة واقعية للبعض، ولكن العابرين على بساط الموت نحو الضفة البريطانية لن يعيقهم احتمال ترحيلهم إلى رواندا.. ولن يفقدوا الأمل بأن يجدوا مهربا من الترحيل عندما يصلون إلى الشواطئ الإنجليزية.. ناهيك بكل هذا التوتر الذي بات يخيم على سواحل المملكة المتحدة الجنوبية، وتلك المشاهد المؤلمة التي تُعاش يوميا داخل مراكز احتجاز المهاجرين، أو خارجها، مع جثث الغارقين أثناء محاولتهم عبور القنال.
تنظيم الهجرة لا يتم عبر إغلاق جميع الأبواب، باستثناء باب ضيق لا يتسع إلا لقلة لا تكفي لسد حاجة البلاد من اليد العاملة في مجالات عدة.. تسهيل شروط العمل والعيش في بريطانيا يحد من الهجرة غير الشرعية.. وكذلك التخلي عن رؤية القادمين بحرا كـ"غزاة" يستهدفون البشر والحجر.. لا يهم السبب الذي حمل المهاجر إلى المملكة المتحدة، وإنما غايته.. ومن رغب في العمل والعطاء يُفضَّل الاستثمارُ فيه بدلا من ترحيله.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة