من المبكر أن يقدم المرء جردة حساب كاملة لحقبة باراك أوباما السياسية على رأس السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية
من المبكر أن يقدم المرء جردة حساب كاملة لحقبة باراك أوباما السياسية على رأس السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية. وليس مأتى الصعوبة من أن أشهرا أخرى ما زالت تفصلنا عن انتهاء ولايته دستورياً، وما زال هو- بالتالي- في موقع السلطة، فضلاً عن أن ملفات كبرى في العالم إدارته طرف فيها، وما زالت مشكلاتها لم تشهد حسماً نهائياً يُحْكَم على أوباما من خلال نتائجه؛ ومنها الأزمة السورية، والأزمة العراقية، والأزمة الليبية، وأزمة العلاقة بروسيا في ملفين منها رئيسيَين (المسألة الأوكرانية ثم مسألة الدرع الصاروخية الأطلسية على حدودها الحيوية)، فضلاً عن الحرب على الإرهاب، وقضايا الصراع العربي- الصهيوني، والعلاقات المتوترة بأنظمة الحكم اليسارية في أمريكا اللاتينية..إلخ، وإنما لأن كثيراً من سياساته وخياراته - شأنه في ذلك شأن أسلافه من رؤساء أمريكا- طيّ الكتمان الأمني، ولا يُعْرَف عن أمره شيء، وبالتالي لن تكتمل الصورة عن عهده إلا بعد سنوات عدة (بعد عقود)، يكون فيها الحظر القانوني قد رُفع عن الأرشيف الرئاسي، وباتت مادته تحت تصرّف الرأي العام الأمريكي والعالمي، بحيث يُتاح الاطلاع على ما كان محجوباً: وهو-عادةً-الأهمّ في كل سياسة.
غير أن ما لا يدرَك كُلّه لا يُتْرك جُلّه/ كما يقول المأثور الفقهي، لذلك في الوسع إجراء جردة حساب - ولو أولية - حول المعلَن من تلك السياسات والمطبّق منها حتى الآن، سواء في وجهها الداخلي - وهو أكثر ما يهم الجمهور الأمريكي والناخبين فيه خاصة- أو في وجهها الخارجي، وهو الذي يهمّ العالم ونحن منه. ونبادر، هنا، إلى القول إنّ الفرضية التي ننطلق منها في تحليل هذه الخبرة السياسية الأمريكية، وحقبة أوباما، ونزعمها مدخلاً إجرائياً إليه، هي أنّ حقبة باراك أوباما هي الحقبة الأغنى في التاريخ السياسي الأمريكي المعاصر-منذ الحرب العالمية الأولى ومبادئ ويلسون- وأنها كانت فرصة استثنائية للولايات المتحدة كي تصحّح صورتها في العالم، كمركز للعدوان والوحشية والحرب، وقد زادها سوءاً في الخمسين عاماً الأخيرة وجود صقور على رأس السلطة فيها، مثل جونسون ونيكسون، وريغان، وبوش الأب، وبوش الإبن..، أولئك الذين كانوا أبطالاً لحروب إجرامية على مصر وسوريا وفلسطين (حرب 67)، وعلى فيتنام، وعلى لبنان (حرب 82)، والعراق، وأفغانستان، وصربيا، وسواها.
ليس من مجال للجدل في أنّ سياسات أوباما الداخلية أصابت حظّاً من النجاح ملحوظًا، انعكس إيجاباً على أوضاع الأمريكيين المعيشية والأمنية، بمثل ما اعترضت سبيلَ استكمال مسلسل مكتسباتها عوائقُ داخلية: من الكونغرس، وأحياناً حتى من حزب الرئيس نفسه («الحزب الديمقراطي»)، وفي جملة نجاحات أوباما التصديق على قانون التأمين الصّحي، ووقف النزيف المالي والاقتصادي - الذي هزّ البلاد والعالم في آخر عهد بوش الثاني: غداة انفجار الأزمة المالية العالمية، التي كادت تودي بالاقتصاد الأمريكي - واستعادة الاستقرار في النظامين المالي والاقتصادي المتهالكين، بل واستئناف الدور المركزي الاقتصادي الأمريكي في العالم، وأخيراً الوفاء بوعد سحب بقايا الجيش الأمريكي من العراق، والبدء بتنفيذ الوعد بالانسحاب التدريجي من أفغانستان، وإعادة الجنود إلى بلادهم وأهلهم، على قاعدة مقولته -التي لم يَخُنْها في عهده - القاضية بأنّ حربيْ العراق وأفغانستان هما آخر حروب أمريكا، ولم تكن النجاحات تلك قليلة الشأن؛ كانت إنقاذية من جهة، وتأسيسية (أو معيدة للبناء) من جهة ثانية، وذات أثر حاسم في توسيع دوائر الفئات الاجتماعية المستفيدة من نظام الحماية الاجتماعية.
لكن إدارة أوباما، في المقابل، لم تستطع أن تفي بوعودها في طيّ صفحة سمعتها الممرّغة عن انتهاك حقوق الإنسان، من خلال إغلاق معتقل «غوانتانامو» سيئ الذكر، على نحو ما وعد بذلك في حملته الانتخابية لولايته الأولى؛ فهو وجد، في الوفاء به، ممانعة شديدة عطّلت قدرته على اتخاذ القرار في الموضوع، بل أوحت بأنه على درجة من الضعف بحيث لا يستطيع إقفال معتقل غير شرعي، وغير خاضع لأحكام القانون والقضاء في الولايات المتحدة، ولم ينفع أوباما في عجزه ذاك أنّ بلاده كانت مسرحاً لحركة احتجاجية مدنية واسعة - طيلة عهد بوش الابن- طالبت الإدارة بإقفاله ضمن مطالباتها الاجتماعية بإنهاء المغامرات العسكرية الأمريكية في العالم. وقد يمرّ وقت طويل قبل أن يعرف العالم لماذا استطاع أوباما أن يجرّع المعارضة الجمهورية وبعض الديمقراطية «الاتفاق النووي» مع إيران، مثلاً، من دون أن يستطيع التغلب على الضغوط الداخلية -من جهات عسكرية وأمنية وسياسية نافذة- المعارِضة لإغلاق المعتقل.
ولم تكن مكتسبات عهده في السياسة الخارجية بحجم، وبأهمية، مكتسباته في السياسة الداخلية، كما أن إخفاقاته فيها ما كانت أقل من إخفاقاته في الثانية. يمكننا الإشارة إلى عناوين خمسة لنجاحات أحرزتها إدارته في مضمار سياساتها الخارجية. أوّلها؛ التزامُه بعدم التورط في حروب جديدة. وثانيها، استئنافه الحرب ضدّ الإرهاب من دون التورط في مشاركة برّية ميدانية عالية الأكلاف (في أفغانستان، وباكستان، والعراق، وسوريا، وليبيا)، وإحراز نجاحات أمنية في تصفية قيادات عليا (من الصف الأول) في «القاعدة»، و«طالبان»، و«داعش»، و«جبهة النصرة»، و«أنصار الشريعة». وثالثها؛ النجاح في حمل إيران - بالضغوط الاقتصادية والعقوبات- على إلغاء الشقّ العسكري من برنامجها النووي، وقبول تسوية سياسية على قاعدة معادلة: البرنامج النووي مقابل رفع العقوبات. ورابعها، إنهاء حال حصار كوبا ومقاطعتها، واستعادة العلاقات بها، وإحداث اختراق -بذلك- في ساحة أمريكا اللاتينية. ولم يكن رصيد هذه المكتسبات هزيلاً، وإن كان في وسع إدارة أوباما تعظيمه أكثر فيها لو حسم بعض تردّده.
أمّا إخفاقاته فكثيرة، ولكنّ أكثرها حدّة اثنان: فشله في تحقيق تسوية للقضية الفلسطينية، بل عجزه حتى عن وقف الاستيطان وتجميده، وعن رد تحدّي نتنياهو الساخر له (حتى داخل أمريكا). وفشله في مواجهة توسّع روسيا الجغرافي والسياسي في جورجيا، ابتداءً، وأوكرانيا تالياً، وإقدامها على ضمّ شبه جزيرة القِرم إليها رسمياً، والاكتفاء بالردّ عليها بعقوبات تستطيع روسيا مبادلتَها بعقوبات نظيرة على بلدان أوروبا.
نقلا عن / الخليج
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة