تفكر واشنطن بأن تحول العراق إلى واجهة لحصار إيران سياسياً واقتصادياً، لأنها مصدر اضطراب وتهديد في المنطقة.
تتعمّق الأزمات يوماً بعد آخر في العراق في ظل انعدام أية حلول للمشاكل المستعصية، وهي ليست في توفير الماء والكهرباء ومشروعات البناء والخدمات الأخرى فقط، بل في أزمة الأحزاب الدينية ومليشياتها التي تسيطر على مصادر المال، وتتلاعب بثروات العراق، حتى أصبحت دولة داخل دولة أو ما تُسمى بالدولة العميقة، فكيف يتم الخروج من هذه الأزمة؟
من الواضح أن الدولة العميقة ركزت أركانها على الأرض، وهذه الحقيقة تعرفها الولايات المتحدة، لذلك تشعر بأنها تتحمل مسؤولية إخراج العراق من هذا المستنقع، حيث قام وزير خارجيتها بزيارة غير معلنة إلى العراق؛ من أجل التفاهم حول نقاط استراتيجية عديدة.
ومن المعروف أن علاقة واشنطن بالحكومات العراقية المتوالية ظلت متذبذبة وغير واضحة؛ لأنها لمست لديها الكذب والمراوغة والتلاعب في أمور كثيرة لم تنفذها، منها محاسبة الفاسدين وسرقة المال العام وإنشاء المليشيات المسلحة حتى خرجت عن السلطة المركزية إن كانت موجودة حقا .
تفكر واشنطن بأن تحول العراق إلى واجهة لحصار إيران سياسياً واقتصادياً؛ لأنها مصدر اضطراب وتهديد في المنطقة. وفي ظل هذا الصراع، يبدو موقف الحكومة العراقية متردداً من طلب الولايات المتحدة تفكيك 67 مليشيا، وسحب السلاح منها، لكن رد رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي لم يكن واضحا
إن تحركات المسؤولين الأمريكيين وزيارتهم المفاجئة إلى العراق تدل على تخبط الحكومات العراقية المتتالية، ونحن أمام مشهد يذكرنا بأن التاريخ يمكن أن يعيد نفسه من جديد. فالولايات المتحدة التي شنّت الحرب على العراق وأحدثت التغيير السياسي فيه، قادرة أن تقوم بالعمل نفسه مرة أخرى، وهذا ما لا تفكر به الأحزاب والمليشيات التي سيطرت على زمام الأمور في غفلة من الزمن، وتقدم الآن الولايات المتحدة تبريرات كثيرة للتدخل في الشأن الداخلي العراقي منها: الفساد والفشل والفقر وسوء الخدمات والمحسوبية وهدر المال العام، وانتشار السلاح وضعف الأمن والقانون وعدم تنفيذ الدستور، وعدم تقديم أي منجز، كلها مبررات لإحداث التغيير في ظل غياب أي مشروع وطني، بعيدا عن الطائفية.
إن قرار واشنطن بإنهاء المليشيات المؤيدة لإيران يأتي كجزء من عقوباتها، لكن العراق لا يستطيع أن يطبقها لارتباط اقتصاده بها، وقد عملت إيران كل هذه السنوات بتركيز مليشياتها وأنصارها في أرضية العراق، وهكذا أمهلت الولايات المتحدة الحكومة العراقية 90 يوماً للاعتماد على نفسها في مجالات حيوية متعددة وعدم استيرادها من إيران: الطاقة، الغاز والكهرباء، إذ يستورد العراق 28 مليون متر مكعب من الغاز إلى مصانعه، كما يشتري 1300 ميجاوات من الكهرباء الإيرانية لسد احتياجاتها، إضافة إلى تغلغل التجار الصغار والتحكم في اقتصاده.
لا تزال الحكومة العراقية هشة وغير قادرة على استكمال كابينتها، بسبب الصراع الطائفي بين مكونات السلطة المختلفة، فكيف يمكن لها أن تتخذ مثل هذا القرار المستقل؟
هل تسعى واشنطن لإجراء تغيير مفاجئ من خلال تحركاتها الأخيرة في العراق؟
سيطرت القوات الأمريكية على الحزام الحدودي مع سوريا، وأعادت توزيع انتشار قواتها في الأراضي العراقية بعد الانسحاب من سوريا، باتفاقها مع الجانب الروسي للخروج نهائياً. تفكر واشنطن بأن تحول العراق إلى واجهة لحصار إيران سياسياً واقتصادياً، لأنها مصدر اضطراب وتهديد في المنطقة. وفي ظل هذا الصراع، يبدو موقف الحكومة العراقية متردداً من طلب الولايات المتحدة تفكيك 67 مليشيا، وسحب السلاح منها، لكن رد رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي لم يكن واضحاً.
وفي الواقع، إنه غير قادر على اتخاذ قرارات بهذا الحجم، لأنها تمتد إلى شبكة واسعة من المصالح والأموال، بل إنه مرتبط شخصياً بهذه التشكيلات ويستمد منها قوته. هذه المليشيات، كما هو معروف، تغولت وأصبحت خارج السيطرة، ويقف في مقدمتها الجناح العسكري لمنظمة بدر بزعامة هادي العامري، وكتائب حزب الله العراقي، ولواء أبوفضل العباس، وعصائب أهل الحق بقيادة قيس الخزعلي، وهي المليشيات الأبرز، إضافة إلى عشرات المليشيا الأخرى.
لا تزال هذه المليشيات تشكل خطراً في المنطقة؛ لأنها مرتبطة بإيران وتستخدم هذه المليشيات لنهب أموال العراق، إذ تقوم بصنع أنابيب فرعية موازية لأنابيب النفط الرسمية العراقية وتهريب النفط وبيعه، من أجل تمويل تنظيماتها بحيث أصبحت جيوشاً توازي الجيش الرسمي العراقي.
وأمام الطلبات الأمريكية بحل المليشيات الموالية لها، عاجلت إيران بإرسال وزير خارجيتها جواد ظريف إلى العراق، وأول خطوة قام بها هو زيارة السيد عمار الحكيم من أجل تهدئة الخلاف الناشب بين أنصاره من المليشيات وبين مليشيات عصائب الحق، على إثر بث قناة الفرات التابعة للحكيم تحقيقاً يصور عملية تفكيك مصفى بيجي العملاق، ونهبه بالكامل خلال حرب التحرير من داعش الإرهابي، بل أعطى جواد ظريف أوامره بضرورة عدم تسليم هذه المليشيات لسلاحها، من أجل أن استخدامها كورقة ضغط للتخلص من العقوبات الاقتصادية.
والسؤالان المهمان هنا: هل تنفذ هذه المليشيات وقادتها أمر واشنطن وتسلم أسلحتها؟ وفي حالة رفضها، هل ستقع مواجهات بين الجيش الأمريكي وهذه المليشيات؟
تعرف الإدارة الأمريكية جيدا التجاوزات التي تقوم بها هذه المليشيات في المحافظات الغربية والمدن المحررة، وكذلك ما تشكله من خطر على المنطقة بأسرها، ولا نعلم كيف ستتصرف هذه المليشيات في حالة تلقيها ضربة أمريكية، وهل ستستهدف المصالح الأمريكية في المنطقة، وهذا ما تسعى إليه إيران، أي تحويل صراعها مع الولايات المتحدة إلى داخل العراق، وليس داخل إيران.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة