الفكر الخميني الذي يقوم على فكرة التقسيم الطولي للمجتمعات العربية يستمد شرعيته من فكرة مفادها أنه لا ولاية لفقيهين.
بعد نجاح الثورة الخمينية في إيران عام 1979 والإطاحة بنظام الشاه، حاول الخميني أن يصدر ثورته إلينا عبر الحدود، تصديرا حركيا واضحا فتصدى له الجيش العربي متمثلا في الجيش العراقي وقتها، في حرب دامت ثمانية أعوام، كان المقصد الخميني وقتها غزو العالم العربي بشعارات ثورية مضللة عبر بوابته العراقية.
الفكر الخميني الذي يقوم على فكرة التقسيم الطولي للمجتمعات العربية والعرضي أيضا حسب ولاءات مذهبية، يستمد شرعيته من فكرة مفادها أنه لا ولاية لفقيهين في وقت واحد، تموت أمام عقيدة أصغر جندي في أي جيش عربي متماسك
الخميني أدرك حينها أن الجيوش العربية عصية على الاقتحام والانهزام فلجأ إلى حيلة أخرى، باحثا عن باب ضعيف يمكن التسرب منه، فلم يجد وقتها وللأسف سوى العقل العربي، فدخل من ذلك العقل العربي زارعا فيه سما قاتلا اسمه "ولاية الفقيه"، التي كانت فيروسا طائرا حمل ثورته لتصديرها فكريا عبرنا نحن.
بعد 40 عاما من ثورة الخميني يمكن القول إن فكرة الخميني التي غُرست في بداية ثمانينيات القرن الماضي إبان ثورته أتت ثمارها السامة بعد أن تقسم المجتمع العربي واقتُطع بسكين ولاية الفقيه إلى نصفين، هذا النصف المقتطع أطلق عليه فيما بعد "الشيعة العرب".
وحدثت جملة كبيرة من التداعيات التي أبرزها تضارب الولاءات داخل البلد الواحد فأصبح ولاء حسن نصر الله الذي هو لبناني أبا عن جد إيرانيا، وهكذا نوري المالكي في العراق والمنتسبين للحشد الشعبي، وبتنا نشاهد صور الخميني في شوارع بلادنا أكثر مما نشاهد صور قاداتنا أو رموزنا.
وسط كل هذه التشققات يظهر تصريح يوسف الناصري، القيادي في حركة "النجباء" التي هي جزء من تشكيلات الحشد الشعبي، الذي يطالب ومن داخل العراق وعلى شاشة تلفزيون عراقي بحل الجيش العراقي، واصفاً إياه بـ"الجيش المرتزق". قد يبدو مجرد تصريح عفوي لرجل فقد ولاءه لوطنه وباع نفسه إلى بلد آخر، ولكن الحقيقة التي تقف خلف هذا التصريح شديدة الخطورة، وشديدة التعقيد. ومن هنا حري بنا أن نكشف عن المخفي خلف تلك التصريحات، وألا نتعامل بالمبدأ العربي القديم "إنهم لا يقصدون".
إن التجربة الزمنية مع إيران ومع جميع أعدائنا تؤكد عكس ذلك، بل تؤكد أنهم كانوا يقصدون، وتؤكد أننا "لم نكن نعرف".
وكما قال نزار قباني في قصيدته الشهيرة "هوامش على دفتر النكسة": "ما دخل اليهود من حدودنا وإنما تسربوا كالنمل من عيوبنا".
إذاً عفوية الشاعر تكشف عن حرب فكرية شديدة لم نكن مستعدين لها، ما زالت الشروخ في العقول تتسع فتسمح بدخول النمل والأفاعي إلى مجتمعاتنا الغارقة في كثير من الجهل والفقر.
بعد ثمانية أعوام من القتال الشرس للجيش العراقي منذ سبتمبر 1980 وحتى أغسطس 1988 مُنع التوحش الإيراني من الدخول إلى عمق هذا البلد العربي الأصيل. لم ينجح ذلك "الفيروس الإيراني" في الدخول إلا حينما احتل الأمريكيون العراق وحل بول بريمر الجيش العراقي، بعدها مباشرة ظهر بجلاء التوحش الإيراني في أبشع صوره والتهم بلدا بأكمله.
تأكد وقتها أن العقبة الكؤود التي كانت حائلا وحائطا ومصدا في وجه التوحش الإيراني هو الجيش العراقي أو فكرة الجيش في حد ذاتها، ومَن يرد أن يتأكد أو يختبر هذه المقولة فليأتِ لي ببلد عربي واحد نجح التوحش الإيراني في التهامه أو ابتلاعه وفيه جيش وطني قوي ومتماسك.
انظروا إلى لبنان فالجيش اللبناني غير قادر على نزع سلاح حزب الله، بل احتل نصر الله بيروت في أحداث أيار عام 2008 ولم يقدر الجيش على التصدي.
لكن لماذا تخاف إيران من فكرة الجيوش العربية؟
لماذا غير "الخميني" تكتيكاته من "اللوجيستك القتالي" المباشر لتسويق ثورته وإدخالها إلى الحدود العربية إلى "الفكري الأيديولوجي المذهبي الطائفي" ثم التسليحي بعد ذلك؟ أي نشر ولاية الفقيه فكريا ومذهبيا أولا ثم تسليحها بعدما استقرت في المجتمعات العربية، كما حدث مع "حزب الله في لبنان أو الحشد الشعبي في العراق وقبله منظمة بدر وأحزاب الله العراقية"، الفكر الخميني يخاف من فكرة الجيوش العربية لعدة أسباب، وأنا هنا أتحدث فكريا وليس مقارنة جيوش ببعضها.
أول هذه الأسباب أن الفكرة التي تقوم عليه الجيوش الراسخة في العالم كله تتعارض بعنف مع أي فكرة تقسيمية طائفية مذهبية. أي أن الفكرة التي تتأسس عليها الجيوش تقوم على جانب مهم يسمى في العلوم العسكرية "عقيدة الجندي والجيش" هذه العقيدة ترتبط مباشرة بفكرة الولاء الواحد للأرض وللتراب وللوطن، متخطية المذهبية والقومية والعرقية.
ومن ثم الفكر الخميني الذي يقوم على فكرة التقسيم الطولي للمجتمعات العربية والعرضي أيضا حسب ولاءات مذهبية يستمد شرعيته من فكرة مفادها أنه لا ولاية لفقيهين في وقت واحد، تموت أمام عقيدة أصغر جندي في أي جيش عربي متماسك.
كما أن فكرة تعارض الولاءات وتقاطعها بين ما هو مذهبي طائفي خارج حدود الوطن وما هو وطني تحت مظلة المواطنة أيضا حتما ستموت أمام "بيادة" أصغر جندي في أي جيش عربي.
من كل هذا يتأكد تماما أن ثمة ثأرا حقيقيا كبيرا من حاملي الفكرة الخمينية تجاه فكرة الجيوش العربية في أي مكان، ما بالك في العراق الذي ظل لوقت طويل السد المنيع أمام الفكرة الخمينية.
نستكمل في المقال القادم
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة