لو كان ولايتي، وقبله سليماني، يعلمان أن لهذه المدن حكاماً يغارون على كرامتها لما كانت لهما الجرأة على انتهاك حرمة مدننا.
قبل أيام، أطل علينا مستشار المرشد الأعلى الإيراني للشؤون الدولية، علي أكبر ولايتي، وهو يتفقد ركام غوطة دمشق الشرقية المنكوبة، ويجول بين أنقاض المدينة المحاصرة منذ عام 2103.
وقد بدا مستشار المرشد الإيراني في مقطع الفيديو الذي تم نشره مصغياً إلى شرح ضباط النظام السوري للعمليات التي جرت في المدينة، مهتماً بالتفاصيل الدقيقة، ومعرفة كل المفردات التي كانت تترجم له إلى الفارسية، وهو يقف على أرض عربية أصيلة، كانت ذات يوم عاصمة للخلافة الإسلامية، عندما كان للعرب عزة وكرامة، وعندما كانت سيادتهم تمتد إلى أرض فارس نفسها.
لأن مشهد السفاح قاسم سليماني وهو يتفقد ركام مدينة حلب التي نُكبت لم يحرك إحساس أحد، فإننا نتوقع ألا يحرك هذا الإحساس أيضاً مشهد ولايتي وهو يتفقد ركام الغوطة الشرقية من دمشق، ليس لأن الأمر لا يستحق، وإنما لأن هذا الإحساس قد مات وقُبِر منذ زمن
وتشملها كلها، بعد القضاء على الإمبراطورية الساسانية، وانتهاء آخر ملوكهم «يزدجرد» مقتولاً ومطروحة جثته في نهر «المرغاب» الذي كان يشكل الحدود الغربية للدولة الفارسية الساسانية، حيث تقع بعده بلاد الترك.
ذكرني هذا المشهد بمشهد شبيه رأيناه أواخر شهر ديسمبر من عام 2016، عندما أطل علينا قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني وهو يتجول بين أنقاض مدينة حلب، ويمر من أمام قلعتها الشهيرة، بعد أن دمرتها قوات النظام السوري، وجنود سليماني الذين جاء يطمئن عليهم، ويشكرهم على ما حققوه من نصر للدولة الفارسية.
كان المنظر وقتها مؤلماً، وكانت الصور معبرة عن مدى الهوان الذي وصلنا إليه. وقتها كتبت في هذا المكان، تحت تأثير الصدمة التي أحدثتها الصور التي تم بثها للجولة، متسائلاً: «ماذا يفعل هذا السفاح في حلب؟».
كان سليماني يتجول بين أنقاض المدينة التي دمرها جنود النظام وجنوده رافعاً رأسه مثل الطاووس، وأمامه كان يمشي قائد عمليات قوات النظام السوري في المنطقة، كأني به يصطحبه في جولة سياحية بالمدينة، وحولهما كان الدمار والخراب ينتشر في كل مكان. ولأن أغلبنا فقد إحساسه، فقد مرت علينا تلك الصور وكأنها جزء من مشهد تمثيلي، وليست حقيقة مهينة ماثلة على الأرض.
ولأن مشهد السفاح قاسم سليماني وهو يتفقد ركام مدينة حلب التي نُكبت لم يحرك إحساس أحد، فإننا نتوقع ألا يحرك هذا الإحساس أيضاً مشهد ولايتي وهو يتفقد ركام الغوطة الشرقية من دمشق، ليس لأن الأمر لا يستحق، وإنما لأن هذا الإحساس قد مات وقُبِر منذ زمن لم نعد نعرف بدايته، ويبدو أننا لن نعرف نهايته، وحتى لو عرفنا فإن هذا لن يغير من الأمر شيئاً، فقد قالها شاعرنا العربي الذي عاش أفضل أيام حياته في بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب، أبو الطيب المتنبي:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجــرح بميت إيــلام
كان يمكن أن يكون لمشهد وقوف ولايتي على ركام غوطة دمشق الشرقية أثر في نفوسنا لو أنه كان لوقوف مواطنه قاسم سليماني على ركام مدينة حلب أثر، لكن هذا لم يحدث.
كان يمكن أن يكون لمشهد وقوف ولايتي على ركام غوطة دمشق الشرقية أثر في نفوسنا لو أنه كان لأحذية الجنود الذين جاؤوا من كل مكان لخوض معارك بلدانهم على أرضنا أثر، لكن هذا لم يحدث.
كان يمكن أن يكون لمشهد وقوف ولايتي على ركام غوطة دمشق الشرقية أثر في نفوسنا لو أنه كانت لنا حكمة ندير بها أمورنا، أو كانت لنا بصيرة نعرف بها عدونا من صديقنا، لكننا أضعنا الحكمة، وفقدنا البصر والبصيرة، فلم نعد نعرف كيف نصد السهام التي تنهال علينا من كل مكان، حتى صدق فينا قول الشاعر:
ولو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهمٌ وثانٍ وثالثُ
لو كان ولايتي، وقبله سليماني، يعلمان أن لهذه المدن حكاماً يُغارون على كرامتها لما كانت لهما الجرأة على انتهاك حرمة مدننا، وتفقد سير المعارك فيها، وكأنهما يتفقدان أرضاً فارسية خاضعة لحكم مرشدهما الأعلى.
لكنهما علما يقيناً أن حكام البلد الذي تنتمي إليه هذه المدن لم تعد لهم كرامة يخافون عليها، فانتهكا أمس واليوم حرمتها، وسوف ينتهكان، هما وغيرهما، غداً حرمة مدن أخرى، ويقفان على أنقاضها وركامها، لأن انتهاك حرمة مدينة واحدة هو انتهاك لحرمة وطن كامل.
وعندما يكون هذا الوطن نهباً لأطماع حكامه قبل أعدائه، يصبح هؤلاء الحكام هم أعداء الوطن الحقيقيين، وأول من يدوس على كرامته، قبل أن يدوس على كرامة هذه الوطن الأغراب، وشذاذ الآفاق، والحاقدون عليه منذ الأزل، أمثال ولايتي وسليماني، والذين يمثلونهم، ومن جاؤوا ينفذون أوامرهم.
لو كان ولايتي، وقبله سليماني، يعلمان أن لهذه المدن شعوباً تدافع عن كرامة أوطانها، لما كانت لهما الجرأة على انتهاك حرمة هذه المدن، ولكن أنى لهذه الشعوب أن تدافع عن الأوطان، وهي مسلوبة الإرادة والكرامة، منتهكة الحقوق، مشردة في جهات الأرض الأربع، يتخطفها الجوع والمرض، وتجود عليها شعوب الأرض بما تسمح به إمكاناتها، ويتسع له فيض كرمها؟
لو أننا نقرأ التاريخ جيداً لعرفنا أن الأمم القوية هي التي تملك قرارها بيدها، أما تلك التي لا تملك القوة، فهي رهينة بيد من يملكها، تأتمر بأمره، وتتبع خطاه، وتسعى إلى إرضاء أصغر مسؤول فيه، وتقدم فروض الولاء والطاعة لهم.
تماماً كما شاهدنا ضباط النظام السوري وهم يحيطون بولايتي وسليماني، يشرحون لهما ما ألحقوه بأوطانهم من خراب، وتلك لعمري هي قمة النصر للغريب المحتل، وقمة الهزيمة والمهانة لأصحاب الأرض الذين ينعمون بصمت القبور، رغم كل هذا الصخب والضجيج الذي يحدث حولهم.
نقلا عن "البيان"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة