الشاهد أنه في الوقت الذي يفضل فيه العالم كله ودول الخليج برمتها خيار الحلول السلمية نشهد تصعيدا إيرانيا جديدا
قبل التصريحات التي أدلى بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في اليابان صباح الإثنين، كانت صحيفة الوول ستريت جورنال الأمريكية قد أماطت اللثام قبل ذلك عن وجود حركة دؤوبة خلف الكواليس الإيرانية والأمريكية، لتفعيل وساطات هدفها الوصول إلى حوار ولو مشروط بين الجانبين.
الصحيفة الأمريكية الشهيرة تحدثت عن اشتراط إيران عبر دبلوماسيين أوروبيين تخفيف العقوبات الأمريكية على صادرتها النفطية لبدء الحوار، فيما يتحدث الأمريكيون عن الإفراج عن رهائن في طهران كبرهان أو قرينة على نيتهم خفض التوتر القائم بين الجانبين.
الشاهد أنه في الوقت الذي يفضل فيه العالم كله ودول الخليج برمتها خيار الحلول السلمية التفاوضية الجادة والفاعلة، وفيما ترامب يسعى إلى مد اليد الطولى للحوار، بل يتوقعه، نشهد تصعيدا إيرانيا جديدا ضد الولايات المتحدة من خلال ترجيح حسن روحاني تنظيم استفتاء شعبي حول برنامج إيران النووي والحد من التخصيبما مدى مصداقية ما اشارت اليه المطبوعة الأمريكية من عدمه؟
الجواب غير واضح أو مؤكد، لا سيما في ظل حالة الضبابية التي تخيم على سماوات المشهد بين الجانبين خلال الأسابيع القليلة الماضية، حيث كل الاحتمالات مفتوحة، وإن ارتفعت وتيرة الصدام مرة وانخفضت أخرى، ضمن سياقات ونطاقات الكر والفر التقليدية، في ظرف ملتهبة مثل هذا.
لاحقا وخلال لقائه رئيس الوزراء الياباني "شينزو آبي" كان الرئيس ترامب يصرح باعتقاده أن إيران لديها الرغبة في الحوار، وأنه إذا رغب الإيرانيون في الحوار فإن الجانب الأمريكي سيرغب بدوره، واضعا رهانا جديدا ضمن رهانات التفاوض الخفية منها والعلنية على اليابان، التي تمتلك حسب وصفه علاقة وثيقة مع القيادة في إيران، ومشددا على أن لا أحد يريد رؤية أمور فظيعة تحدث، في إشارة لا تخطئها العين إلى الحرب، التي يمكن أن تحدث في المنطقة إذا استمرت إيران على عنادها المزعوم.
لكن ما يجعل الأمر ملتبسا على أي محلل متابع لحالة الشد والجذب بين الجانبين الإيراني والأمريكي، إفادة الرئيس ترامب بأن الولايات المتحدة الأمريكية لا ترغب في تغيير النظام الإيراني، ولا تريد إلحاق الأذى بإيران.
يمكن للمرء أن يتفهم حرص الرئيس الأمريكي على إيران بوصفها دولة محورية من حيث حضورها الجغرافي والديموغرافي، التاريخي والاقتصادي، في المنطقة، وكثيرا ما حاول التفريق بين النظام الحاكم وبين الشعب الإيراني نفسه، ذاك الذي وصفه مرارا وتكرارا بأنه شعب عريق صاحب حضارة، ولا أحد يختلف مع ساكن البيت الأبيض على ذلك، مع الأخذ في الاعتبار دلالات إسهاب ترامب في الدور الذي يمكن أن تقوم به إيران مستقبلا، باعتبارها قوة اقتصادية ولديها إمكانات النجاح والتعاون مع المجتمع الدولي، ولهذا يبقى السماح لهم بالعودة إلى مرحلة يستطيعون فيها إظهار ذلك أمرا واردا.
لكن ما يحار العقل في التعاطي معه هو التصريح الخاص بعدم نية الولايات المتحدة في تغيير النظام الإيراني، بل دفعها إلى القول: "لا للأسلحة النووية".
الذين قدر لهم متابعة التصريحات المختلفة الصادرة عن بعض من أركان إدارة ترامب النافذين قبل فبراير/شباط الماضي، يعلمون علم اليقين أن النوايا الأمريكية كانت واضحة للعوام وللاستخبارات على حد سواء، وتدور في فلك حتمية نهاية نظام الملالي مرة وإلى الأبد، وإن أربعة عقود من الفوضى والإرهاب الإيرانيين يكفيان جدا وإلى أبعد حد ومدى.. ما الذي تغير؟
ثم نأتي إلى المعنى والمبنى، فما الذي يقصده الرئيس ترامب بتغيير النظام وهو يعلم أن إيران لا تتصرف كدولة بل كثورة، وأن القائمين على رأس النظام هناك يحكمون باسم المقدسات، ويخلطون المقدس بالمدنس والمطلق بالنسبي؟ وعليه هل تعني تصريحات الرئيس ترامب الإبقاء على الملالي وعدم تغييرهم، ما يفتح بابا للتحليلات واسعة للشكوك والظنون المختلفة حول سياقات ونطاقات العلاقات الإيرانية الأمريكية، وفيها عبر العقود الأربعة من المشاهد والمرتكزات ما يخفي عن العيون، ويدور في أطر الكواليس السرية والخفية؟
الرئيس ترامب في اليابان توقف عند ذكر البرنامج النووي الإيراني وحتمية عدم امتلاك إيران أسلحة دمار شامل، فهل هذا هو التحدي الوحيد دون اعتبار لبقية الشروط الاثنى عشر، شروط بومبيو إن جاز القول، وفي مقدمها البرنامج الصاروخي، والحرب الإيرانية السيبرانية، والهيمنة التي تصل إلى حد البلطجة في مياه الخليج، ناهيك عن التدخل في شؤون الدول العربية صباح مساء كل يوم من خلال وكلاء حرب، وأذرع مليشياوية تعيث فسادا في الحال وتخطط لما هو أسوا في الاستقبال، وصولا إلى بقية ما هو منصوص عليه في قائمة المطالب الأمريكية من النظام الإيراني؟ ذاك الذي لا يود ترامب تغييره، والذي يدرك المراقب للوضع أنه لا دلالة حقيقية له على الحوار الجاد، وإنما يمتهن بحرفية عالية فن التقية ومذهبها لتسويف الوقت.
المراوغة والتلاعب بمقدرات الأمور الجوهرية يجريان في شرايين الملالي، وقناعاتهم الدوجمائية تبرر لهم ذلك، وردودهم جاهزة على الذين يتهمونهم بالسعي لامتلاك أسلحة نووية، بأن الأمر محرم شرعا عليهم بفتوى من الخامنئي نفسه، في حين أن ما تم الحصول عليه في يناير الماضي خلال عملية استخبارية، من وثائق ومستندات وصور وأدلة عن برنامج إيران النووي يقطع بالكلية بأن الهدف الأول والأخير هو سلاح الدمار الشامل، والذي عليه تقوم لإيران قائم مختلفة في المستقبل؛ حيث تجعل من مجابهتها أمرا ميؤوسا منه لخطورته وتكلفته غير المحسوبة العواقب.
هل تعني هذه السطور أننا ندفع في سبيل الحرب أو نشجع عليها؟
حاشا لله هذا، فلا أحد يود إراقة الدماء أو هلاك الزرع والضرع، لكن الكارثة تتمثل في فصول التهويمات التي تجري بين الإيرانيين والأمريكيين، ومعها يخشى المرء أن تكون التكاليف الباهظة من نصيب العرب كما الحال في منعطفات الزمان، ماضيه البعيد والقريب على حد سواء.
هل من أمل في أن يغير النظام الإيراني سلوكه أو عقيدته السياسية؟
الشاهد أنه في الوقت الذي يفضل فيه العالم كله ودول الخليج برمتها خيار الحلول السلمية التفاوضية الجادة والفاعلة، وفيما ترامب يسعى إلى مد اليد الطولى للحوار، بل يتوقعه، نشهد تصعيدا إيرانيا جديدا ضد الولايات المتحدة من خلال ترجيح حسن روحاني تنظيم استفتاء شعبي حول برنامج إيران النووي والحد من التخصيب، الأمر الذي تتيحه المادة 59 من الدستور الإيراني، والتي من شأنها فتح الطرق المغلقة أمام نظام الملالي للاحتماء بالشعب الإيراني واعتباره الظهير السياسي للقيادة الحاكمة، بما يفيد بوضع العصا في دواليب الرهان الأمريكي الرسمي على الشعب الإيراني نفسه.
حوارات إيرانية العلنية طنطنة ورطانة إعلامية.. التقية هي الأصل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة