حادثة مقتل سليماني وأتباعه لم تأت جزافا ولا على سبيل الصدفة؛ لأن الدولة المنفذة لها لا تدار السياسة فيها بالصدفة ولا بالفرصة السانحة.
فهم الحوادث والوقائع السياسية، وتوقع تداعياتها، واستشراف مساراتها المستقبلية يستوجب التعمق في أركان المعادلة السياسية الثلاثة وهي: الإنسان والزمان والمكان؛ فالحوادث السياسية تتشابه في أشكالها، وتختلف في أركانها، ولذلك تكون مساراتها مختلفة كذلك، وتكون نتائجها وتداعياتها متعددة ومتنوعة بتعدد الاختلافات في الأركان الثلاثة، ومن ثم لا يمكن افتراض التشابه أو التماثل في النتائج إذا تشابهت المقدمات.
وحادثة مقتل سليماني وأتباعه لم تأت جزافاً، ولا على سبيل الصدفة؛ لأن الدولة المنفذة لها لا تدار السياسة فيها بالصدفة، ولا بالفرصة السانحة، وإنما تكون الأفعال ناتجة عن أفكار، وخطط وتقديرات دقيقة؛ تشارك فيها عقول ومؤسسات، وأجهزة استخبارات، ومراكز تفكير، وتقارير تقدير موقف متعددة، حتى ولو كان من يبدو أنه متخذ القرار، وليس صانعه غير ذلك.
عملية قتل سليماني وتابعيه تمت في بداية العام الميلادي الجديد، وهو عام الانتخابات الرئاسية الأمريكية؛ التي كانت تتراجع فيها حظوظ الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب؛ نظراً للمشاكل القانونية التي يواجهها مع الكونجرس، والتهديد باتخاذ الإجراءات الدستورية لعزله، لذلك اختار الرئيس ترامب أن يبدأ حملته الانتخابية في مطار بغداد، وأن يبدأها بالتخلص من إرهابي يقود منظمة إرهابية حسب التعريف الأمريكي، واختار كذلك أن يهرب من مشاكله مع الكونجرس بإثبات قوة وصرامة خارجية؛ لأن العقل الجمعي الأمريكي يشترط في رئيسه أن يكون محارباً warrior، ولأن الثقافة الأمريكية تعلي قيمة القوة والصرامة والسرعة في اتخاذ القرار؛ لذلك سوف يستمر الرئيس ترامب في عام الانتخابات هذا في مسار إثبات الصلابة الخارجية، ولن يعود لعادته القديمة في استخدام ألاعيب التاجر، أو المقامر، أو عقلية البازار التي يجيدها السياسيون الإيرانيون. سوف يستمر ترامب في السير في خط التصعيد، ومواجهة الأفعال بردود أفعال أقوى، وأشد شراسة؛ تحافظ على صورة المحارب الشجاع؛ لأنه يحتاج إلى الاستمرار في هذا الموقف القوي خارجياً بعد أن حقق النجاح الاقتصادي داخلياً؛ لأن ذلك سيضمن له ولاية ثانية.
كان وجود قاسم سليماني رمزاً لغطرسة الطاووس الفارسي، وتبختره في الدول العربية التابعة لإيران، وكأنه المندوب السامي، أو مبعوث العناية الإلهية. ونهاية سليماني هي نهاية لهذا الطغيان، وتلك الغطرسة، وقد كانت نهاية مفجعة موجعة لمن يتعامل بعقلية ورمزية الطاووس.
وفي المقابل سوف تنطلق بورصة المزايدات، والتهديدات من الجماعات الموالية لإيران بأعمال ضد المصالح الأمريكية للحفاظ على الشرعية الشعبية، والتفاف الجماهير حولها، وهذا سيضعها في مواجهة مع ترامب، وحملته الانتخابية؛ لذلك سوف تتم هجمات صغيرة، وصبيانية مثل ألعاب الأطفال في العراق واليمن وسوريا، وسوف تواجه بردود فعل عنيفة جداً من قبل القوات الأمريكية، وسوف يتم توظيف هذه الهجمات الصغيرة إعلامياً من خلال الآلة الإعلامية الإيرانية والقطرية لتسويقها على أنها عمليات ثأر لمقتل سليماني وأتباعه.
أما قيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية فقد دخلت في حالة نادرة من تصادم المصالح والشعارات؛ مصالحها في هذه اللحظة ألا تدخل في مواجهة مع الرئيس الأمريكي في عام انتخاباته، ذلك الوقت الذي يعني أنه مستعد لأي مغامرة تجذب له مزيدا من الأصوات، والقيادة الإيرانية تدرك ذلك جيداً؛ لذلك سوف يقتصر ردها على إشعال حروب لغوية في عالم الكلمات والشعارات، ولن يحدث شيء من قبل إيران ضد أمريكا؛ خوفاً من ردود فعل أشد قوة وصرامة ستكون أكثر إحراجاً.
الرد الإيراني سيكون كالعادة من خلال الحرب بالوكالة من خلال العملاء في الدول العربية الأربع الواقعة تحت الاحتلال السياسي الإيراني: العراق وسوريا واليمن ولبنان، بالإضافة إلى جماعة حماس في قطاع غزة، ستقوم هذه الجماعات بمناوشات صغيرة؛ سيكون ضحيتها كالعادة من العرب والمسلمين؛ لأن تلك العمليات ستوجه إلى بعض أماكن وجود الأمريكان في هذه الدول، وستقع الصواريخ على المناطق المجاورة، وسيكتفي هؤلاء العملاء بالخبر الإعلامي أنهم استهدفوا قاعدة أمريكية، أو موقعاً أمريكيا حتى ولو لم تتحقق الإصابة.
إيران لن ترد على أمريكا رداً عسكرياً مباشراً في الواقع، ولكنها ستظل تخوض حرباً كلامية شرسة تهدد بالرد في الزمان والمكان المناسبين؛ على نفس منهج بشار الأسد في ردوده على الاعتداءات الإسرائيلية على السيادة السورية، سيكون الرد كلامياً وليس حربياً؛ لأن القيادة الإيرانية من الوعي واليقظة بمكان يمنعها من مواجهة أمريكا في هذا الزمان بالتحديد؛ لأنها تعرف ماذا يعني عام الانتخابات عند الرئيس الأمريكي.
لذلك يمكن القول إن هذا اليوم هو بداية النهاية لهذا المشروع الإيراني الذي يمثله قاسم سليماني؛ الذي كان نموذجا لاستخدام قضية القدس، وليس لخدمة قضية القدس، استخدام قضية القدس، ورفع شعار القدس لقتل المسلمين والعرب، وتدمير الدول العربية، وتوسيع النفوذ الفارسي الذي يتستر خلف عمائم آل البيت عليهم السلام؛ على حساب تفكيك المجتمعات العربية، وزرع الفتنة الطائفية فيها.
لقد صدر القرار الأمريكي بتحجيم النفوذ الإيراني، وتقليم أظافر إيران، ودفع إيران؛ بل وإجبارها على أن تعود دولة طبيعية مثل باقي الدول، وليست ثورة طائفية تخطط وتنفذ مؤامرات للتوسع على حساب الجيران؛ تحت شعارات دينية رجعية ظلامية؛ لا يتصور أي عاقل أن تقوم عليها دولة في القرن الحادي والعشرين.
كان وجود قاسم سليماني رمزاً لغطرسة الطاووس الفارسي، وتبختره في الدول العربية التابعة لإيران، وكأنه المندوب السامي، أو مبعوث العناية الإلهية. ونهاية سليماني هي نهاية لهذا الطغيان، وتلك الغطرسة، وقد كانت نهاية مفجعة موجعة لمن يتعامل بعقلية ورمزية الطاووس.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة