لنعايش مجددًا عصور ظلمات لن تكون نهايتها هذه المرة بالأمر الهيِّن، لأن الضريبة ستكون أنهارًا من دماء الأبرياء ومزيدًا من الشتات والتخلف
«الدواعش» أو بيئتهم التنظيمية الحاضنة المسماة بـ«تنظيم الدولة الإسلامية»، آفة ثقافية واجتماعية نخرت المجتمعات العربية، وستكون عنوان انحدارها إذا ما تمكنت من السيطرة على عقول المزيد من أبنائها الذين سيعززون قوافل السواد التي ظهرت فجأة في الفضاء العربي مدججة بأحدث أنواع الأسلحة وبأكثر الأفكار تطرفًا وحقدًا على الأنا والآخر. هذه حقيقة ساطعة لا ينكرها أي مواطن عربي، إلا إذا كان مشايعًا لعقيدتهم، فما يبشرنا به «الدواعش» وأضرابها نكوص إلى الوراء، ولي لأعناق التاريخ، وطلاق بائن مع المدنية ومعانيها وقيمها والحداثة ومكاسبها والدولة الوطنية وإنجازاتها،
لنعايش مجددًا عصور ظلمات لن تكون نهايتها هذه المرة بالأمر الهيِّن، لأن الضريبة ستكون أنهارًا من دماء الأبرياء ومزيدًا من الشتات والتخلف. غير أن «داعش» ليست وحدها الآفة التي تنخر كيانات المجتمعات العربية بسرعة عجيبة، كما أنها ليست الوحيدة المسؤولة عن حالة الانحدار هذه، فهناك جماعات تأسست على خلفية إعصار الكراهية الذي يجتاح مجتمعاتنا العربية عمومًا، والخليجية على وجه التعيين والخصوص. وكل هذه التيارات يجمعها هوى التطرف، والحلم بإنشاء الدولة الدينية تأسيًا بالمنوال الإيراني الذي ما فتئ يصدر بلاويه منذ نجح الملالي في الاستئثار بدفة الحكم هناك.
ومن ثم يظل الحديث عن مصدر هذا الإعصار تحصيل حاصل، فكلنا يعرف، أن هذا الإعصار قادم، ترتيبًا، من إيران الكسروية، وإيران الصفوية، وإيران الشاهنشاهية وإيران الخمينية. هذه الإيران لم تتغير على مدى الأزمان، فاليوم هي حاصل متراكم من الكراهية والحقد عبر الحقب التي مرت بها. هكذا كانت علاقتها بالعرب، وهي حتى هذا اليوم مستمرة على هذا المنوال، ويمكن أن تظل كذلك إذا لم تتخلص من الأوهام التي غرستها زيجة عجيبة بين الشوفينية الفارسية الكارهة للعرب والمتعالية عليهم بحجة مستمدة من عصور الجاهلية أيام كانت شبه الجزيرة العربية ساحة تتقاسمها إمبراطوريتا الفرس شرقًا والروم غربًا،
والثيوقراطية التي استمدت من وقائع سقيفة بني ساعدة والفتنة الكبرى ما به سوقت لحجج كراهية العرب السنة. وهذه النزعة في ظني لا خلاص منها ما لم تتغير منظومة الحكم في إيران لتكون ديمقراطية مدنية، وما لم تتغير منظومة التعليم التي يصور فيها العربي، والعربي المختلف مذهبيًا على وجه الخصوص، على أنه مصدر لخذلان القومية الفارسية. بطبيعة الحال، تغيير منظومة التعليم في الجارة إيران ليس من اختصاص دول مجلس التعاون، لكن من واجب هذه الدول مجتمعة مقاومة تنامي العداء الفارسي الشوفيني الثيوقراطي، ومن واجبها الاستعداد له من خلال تسييج مجتمعنا الخليجي ثقافيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، ودعم مقومات المواطنة الحقة عبر تنويع اختياراتنا الديمقراطية، التي تسهم في انفتاحات الحكومات على شعوبها بشكل أكبر.
نحتاج إلى كثير من الوقت حتى تتمكن دول مجلس التعاون من صد العدوان الإيراني على المجتمعات الخليجية، فالحرب التي تشنها إيران على دول المجلس أضحت مكشوفة، وتجاهر بها إيران. ورغم التصدي الذي تواجه به عاصفة الحزم هذا الإعصار ووقفه عن بلوغ مداه، ومحاصرة نفوذه الذي نما بشكل كبير في بعض المجتمعات الخليجية. إلا أن بلدان المجلس، وخصوصًا مملكة البحرين والمملكة العربية السعودية ودولة الكويت، تحتاج إلى جانب الجهود الأمنية، مواجهة ثقافية وإعلامية ودبلوماسية تقضي بها على تفريخات الجماعات المذهبية التي تطال أفهام بسطاء المواطنين وقيمهم فتجعلهم مأسورين بخدع الدعاية الإيرانية التي لا غاية لها إلا أن تسطو على وعيهم باسم سلطان المذهب.
بالنسبة إلينا كمجتمع في هذه البلدان الخليجية الثلاث التي ذكرت، فإن الجماعات الراديكالية لا تألو جهدًا إلا وتظهره دعمًا للدعاية الإيرانية التي تستهدف ولاءات المواطنين لحكامها وحكوماتها وانتماءاتهم مرة باسم الدين والمذهب، وهو ما لاح في أوضح تجلياته من خلال الهجمة الشرسة للإعلام الإيراني واحتفائه المستفز بتصريحات السياسيين ورجال الدين في النظام الإيراني في موسم حج هذا العام ضد المملكة العربية السعودية، وتارة باسم المظلومية، وهذا ما لم تتوقف إيران عن فعله منذ وصول الخمينية إلى سدة الحكم ضد مملكة البحرين ودولة الكويت. إيران الخمينية بصنيعها ذاك تؤسس لسيادة قرارها بواسطة تصدير مبادئ ثورتها المتخلفة إلى الجماعات الراديكالية على غرار ما فعلت في العراق ولبنان واليمن. فهل ترانا نترك لإيران فرص النجاح في مساعيها التدميرية التخريبية بشكل نهائي وتام؟
في اعتقادي هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يكون حاضرًا أمام دول مجلس التعاون، بصرف النظر عن مستوى التدخل في شؤون دول المجلس. ينبغي أن ينظر إلى تدخل إيران في أي بلد من بلدان دول المجلس على أنه تدخل في شؤون كل الدول التي يضمها هذا المجلس. الأمن الذي تحاول إيران تقويضه في المملكة العربية السعودية أو في مملكة البحرين، هو نفس الأمن في أبعاده الاستراتيجية في سلطنة عمان أو دولة قطر أو الإمارات العربية المتحدة، فخليجنا واحد في كل أبعاده، وهذه الوحدة هي التي أراها حائط الصد الأول والصخرة الأولى التي ستحطم الأوهام الإيرانية.
أما حائط الصد الثاني فماثل في عناصر السخط والغضب لدى الشعوب الإيرانية، وهو معطى واقع لم تستطع «ثورة» الخميني القضاء عليه، ولهذا فعناصر السخط هذه ليست وليدة اليوم، وإنما هي عناصر كامنة في المجتمع الإيراني منذ مئات السنين، واليوم يمضي على اعتمالها تحت ركام قهر نظام الولي الفقيه أكثر من ثلاثين عامًا، وحان زمن إيقاظها ودعوتها لتدخل ضمن قواعد اللعبة التي أراد لها الإيرانيون أن تكون على المكشوف.
فإذا كان الإيرانيون يعتقدون أن بإمكانهم اللعب بورقة المؤمنين بنظرية ولاية الفقيه، وهم محدودو العدد والعدة، فإن الخيارات لدى دول مجلس التعاون لا تعد ولا تحصى، هناك عرب الأحواز، وهناك الأكراد السنة، وهناك مجاهدو خلق، وهناك فضلاً عن كل ذلك توق الإيرانيين إلى شيء من الحرية والديمقراطية والمدنية التي تجعلهم كجيرانهم يتنعمون بخيرات بلدهم في رفاه لا ينكره إلا أعمى البصر والبصيرة. في ظني الخيارات مفتوحة، وكثير من الشعوب الإيرانية فاتحة ذراعيها ترحيبًا بمن يمدها بدعم يساعدها على الخلاص من هيمنة الملالي على مقدراتهم.
عوامل التأثير في الأمن في المجتمع الإيراني أكثر وفرة منها في مجتمع دول مجلس التعاون وينبغي استثمارها في الحرب التي اختارت لها إيران أن تكون مفتوحة مع دول مجلس التعاون. وسوف نحقق فيها أكثر مما حققت إيران في الدول العربية. الحرب على «داعش» واجب وطني، لكن هذه الحرب لا ينبغي أن تلهينا عن محاربة رؤوس الفتنة التي تزرعها إيران في مجتمعنا الخليجي.
*- نقلا عن جريدة "الأيام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة