بعد قرار الرئيس الأمريكي بعدم المصادقة على تطبيق التزامات إيران للاتفاقية النووية، جاء دور الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
بعد قرار الرئيس الأمريكي بعدم المصادقة على تطبيق التزامات إيران للاتفاقية النووية، والمطالبات الأوروبية والعربية بوضع حدّ لنشاطات إيران الصاروخية وتدخلاتها السافرة في المنطقة، جاء الدور على الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الجهة المشرفة على كيفية تطبيق الاتفاقية النووية في إيران، لتكشف عن بعض الإشكاليات الأساسية في طريقة التعامل مع إيران، على الرغم من أن مدير عام الوكالة "يوكيا أمانو" صرح في تقريره الأخير، بأن طهران ما زالت متعاونة معهم.
وهذه الإشكاليات تشير إلى التباس واضح ناتج عن تفسيرات متضاربة بين إيران والوكالة الدولية حول بعض بنود الاتفاقية النووية وكيفية التعاطي معها في التقارير الصادرة عن مدير عام الوكالة، والهادفة إلى تسليط الضوء على نشاطات إيران النووية المُعتمة، دفعت رضا نجفي مندوب إيران الدائم لدى الوكالة، بتوجيه تصريحات احتجاجية إلى يوكيا أمانو، مطالبا إياه بالعمل وفقا للتفاسير الإيرانية من الاتفاقية التي تتناقض تماما مع مضمون التوافق الحاصل بين إيران ومجموعة "خمسة + واحد".
وعلى سبيل المثال وفيما يخص نشاط مفاعل آراك النووية في وسط إيران، فهو أنتج 130 طنا من الماء الثقيل الذي كان يعمل على تخصيب اليورانيوم خارج أجهزة الطرد المركزي وبطريقة مختلفة، ومصممة فقط للأغراض العسكرية وبشكل خاص صناعة القنبلة النووية، ووفقا للاتفاقية النووية فإن على إيران تطمير قلب المفاعل والتخلص من الكم الهائل من الماء الثقيل من خلال بيعه في الأسواق العالمية.
علي خامنئي وقيادات الحرس لا يريدون قراءة نص الاتفاقية التي أبرمتها إيران مع الدول العظمى ونشرتها وزارة الخارجية الأمريكية، وإنما يصرون على القراءة من نص الاتفاقية التي نشرها وزير خارجيتهم والمتطابقة تماما مع مآربهم وأهدافهم التوسعية في إيران والمنطقة
ولكن التفسير الإيراني حول هذا الموضوع خصوصا، يأتي معاكسا تماما لما تطالب به الاتفاقية النووية؛ حيث تريد إيران بدلا من تطمير قلب المفاعل، إدخال بعض التعديلات في بنيته والتخطيط للحصول على تصاميم جديدة له، من خلال إبرام عقود فنية مع شركة صينية، وحسب الرؤية الإيرانية لم يَعُد من التزامات طهران تجاه المجتمع الدولي والاتفاقية النووية، التخلص من مخزون الماء الثقيل الموجود على أراضيها وعرضه في الأسواق، وإنما تتحدث إيران- وكما جاء على لسان مندوبها نجفي، من خلال إلقاء كلمة له في مجلس الحكام لدى الوكالة الذرية، يوم الخميس الماضي، وخاطب فيها مدير عام الوكالة- عن عرض فائضها من هذا المخزون في الأسواق، شرط أن يتوافر له مشترٍ بكل الصلاحيات ووفقا للمعايير المطلوبة، وفي حال عدم الحصول على هذا المشتري بهذه المواصفات، ستصبح إيران غير مسؤولة عن إبقاء 130 طنا من الماء الثقيل على أراضيها!
هذه الإيماءات من المسؤولين الإيرانيين تعني أنه بعد عامين من توقيع الاتفاقية النووية، ما زالت إيران تحتفظ بهذا الكم الهائل من مخزونها من الماء الثقيل على أراضيها، وليست لديها نية لإبعاده عن إيران. وهذا يعني خرقا سافرا للاتفاقية النووية والتعنت على استمرار هذه الخروقات، بما يوجب على الوكالة الدولية التحرك ضد كل هذه الانتهاكات والتخلي عن سياسة المراوغة مع نظام الولي الفقيه.
وفي تملص آخر لنظام طهران العمائمي من الاتفاقية النووية، يأتي تضارب الرؤى بين إيران والوكالة الذرية حول الفقرة 26 من آخر تقرير صدر في 13 من نوفمبر الجاري من قبل "يوكيا أمانو" حول التزامات إيران بتطبيق الاتفاقية النووية؛ حيث تشير هذه الفقرة إلى وجود عدد من القطع ذات استعمال مزدوج داخل مراكز إيران النووية؛ فمن حق مفتشي الوكالة الوصول إليها حتى لو كانت داخل المراكز العسكرية الإيرانية وفقا للبروتوكول الإضافي الذي يسمح للمفتشين الدوليين بدخول المواقع المشتبه بها أينما كانت، ولكن رضا نجفي مندوب إيران لدى الوكالة الذرية، طالب مدير عام الوكالة بشطب هذه الفقرة من التقرير؛ حيث إنها -حسب الرؤية الإيرانية- لا تتطابق مع التزامات إيران وفقا للاتفاقية النووية.
وفي هذا السياق، اتهم رضا نجفي، يوكيا أمانو بأنه قام بتأويل بنود E,D,S,T من الاتفاقية النووية حسب رؤيته، ثم أدخلها في الفقرة 26 من تقريره الصادر في شهر نوفمبر. وهذه المواد خصوصا هي التي أشعلت الصراع بين الوزارة الخارجية الإيرانية وقيادات الحرس إبان إبرام الاتفاقية النووية في يونيو عام 2015، حيث دفعت محمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني لنشر صورة من الاتفاقية النووية على موقع الوزارة الخارجية الإيرانية، خالية تماما من التزامات إيران بهذا الموضوع ومغايرة تماما للصورة التي نشرتها وزارة الخارجية الأمريكية من الاتفاقية نفسها.
والحقيقة في هذا الالتباس، أن علي خامنئي وقيادات الحرس لا يريدون قراءة نص الاتفاقية التي أبرمتها إيران مع الدول العظمى، ونشرتها وزارة الخارجية الأمريكية، وإنما يصرون على القراءة من نص الاتفاقية التي نشرها وزير خارجيتهم والمتطابقة تماما مع مآربهم وأهدافهم التوسعية في إيران والمنطقة.
وفي آخر زيارة لمدير عام الوكالة الذرية لطهران وفي لقائه المسؤولين الإيرانيين، ركّز يوكيا أمانو على حق المفتشين الدوليين في دخول المواقع النووية الإيرانية المشتبه بها، بما فيها المواقع العسكرية. وقبل هذه التوجه، كانت هناك ضغوطات أمريكية دفعت السيدة نيكي هيلي مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة إلى زيارة مقر الوكالة الذرية في فيينا، والمطالبة بتحرك أكثر حزما تجاه نشاطات إيران المشبوهة، خلال لقائها مع أمانو.
وفي موازاة هذه الزيارة، نشرت الصحافة الأمريكية أنباء عن نشاط نووي خفي داخل إيران بعيدا عن أعيُن مفتشي الوكالة، هذا النشاط يتمحور حول تحرك يجري على قدم وساق من أجل تفعيل أجهزة نووية حساسة بعيدة عن الرقابة الدولية. كل هذه الضغوط والتحركات، انعكست في آخر تقرير لمدير عام الوكالة وخاصة الفقرة 26 التي أثارت امتعاض قيادات الحرس داخل إيران، ومن ثم جاءت من ضمن الكلمة الاحتجاجية التي نطق بها مندوب نظام العمائمي في الوكالة أمام أعضاء مجلس الحكام في فيينا، الخميس الماضي.
فمن خلال الاتفاقية النووية، كانت إيران تنوي وقفة نووية مؤقتة، وتوسع مليشياوي على أبعد الحدود في المنطقة. ولكن حسابات إيران في هذا الخصوص لم تصمد بقدر الكفاية حين فاز دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية الأخيرة. بعد ذلك تمحورت إيران مع الأوروبيين والوكالة الذرية ضد الإدارة الامريكية الجديدة، ولكن سرعان ما تبدّلت الأحوال عند مطالبة أوروبية بوضع حدّ لتجارب الصواريخ الباليستية وتدخلات إيران في شؤون دول وشعوب المنطقة، التي أدت إلى طرح مناقشات جديدة حول إضافة بنود على الاتفاقية النووية لا ترغب بها إيران ويعارضها بشدة الولي الفقيه وأزلامه في مليشيا الحرس. بعد ذلك وفي ظل هذه التغييرات المتسارعة، بقيت إيران وحيدة متمسكة بتقارير الوكالة الذرية التي تصدر أحيانا بصورة إيجابية تؤيد التزامها بالاتفاقية النووية، حسب التفسير الإيراني.
ولكن في ظل التعنت العمائمي، وفي توجيه انتقادات إيرانية إلى مدير عام الوكالة الذرية، يبدو أن إيران خسرت آخر قلاعها في الملف النووي، بعدما خسرت الولايات المتحدة والدول الأوروبية وشعوب المنطقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة