منطقة هرمز شاءت لها الأقدار أن يكون لها عبقرية مكانية خاصة، ليس في عصرنا الحالي فقط
السياسة مثل طبقات الأرض، تخفي أكثر مما تظهر بكثير، وما نعرفه منها أقل بكثير مما لا نعرفه، ومن يريد أن يفهم السياسة يحتاج إلى أن يفهم الجيولوجيا الخاصة بكل موضوع على حدة، لأن موضوعاتها لها طبقات متراكبة، ومتراكمة فوق بعض، وأحيانا نعيش الحدث، ونمر به، أو يمر بنا دون أن نعرف منه إلا ظاهره، وقليل جدا من خفايا جوفه الذي يحوي الكثير.
أسئلة كثيرة تفرضها حالة الانشغال الأمريكي والأوروبي بهرمز عن قم وطهران، على الرغم من أن الخطر الحقيقي يأتي من قم وطهران وليس من هرمز، والإجابة عن هذه الأسئلة تحتاج إلى قدرة على التنقيب في الطبقات الجيولوجية للسياسة الدولية، وهذه في ذاتها مهمة شاقة لا نستطيعها لأننا لا نملك التكنولوجيا المناسبة لها
وهذا الأمر ليس عاماً على الجميع، فهناك من يملك الأدوات والوسائل لمعرفة كل طبقات السياسة وموضوعاتها، سواء لأنه يملك من عمق المعرفة ما يمكنه من ذلك أو لأنه هو من يصنع هذه الأحداث السياسية، أو يزرعها ويرعاها لزمن طويل، حتى تنمو وتقوى وتؤتي ثمارها، وسواء أكان صانعا للأحداث في زمن قصير أم زارعا لها عبر زمن طويل، ففي النهاية يملك وسائل الإتجار بها وتسويقها وجني ثمارها والحصول على عوائدها.
والجغرافيا مثل السياسة، أو هي أمّ السياسة، لها حكمتها الخاصة، وكما يقول المرحوم الدكتور جمال حمدان أن للجغرافيا عبقرية خاصة بها، تمنحها لبعض الأماكن وتبخل بها على أخرى، فهناك أماكن لها عبقرية جيوسياسية واستراتيجية كبيرة وممتدة عبر الزمن، وهناك من الأماكن ما ليس لها تلك العبقرية، وعبقرية المكان لها وجوه متضادة متعاكسة، فهي مفيدة وضارة في الوقت نفسه، مفيدة لمن يستطيع توظيفها، والاستفادة منها، ومضرة لمن لا يستطيع ذلك.
ومنطقة هرمز شاءت لها الأقدار أن يكون لها عبقرية مكانية خاصة، ليس في عصرنا الحالي، وإنما برزت عبقريتها منذ أن تحول العالم من حالة الانعزال التي كانت تميز كياناته السياسية، إلى حالة الاكتشاف والتواصل، وما ترتب عليها من رغبة في التوسع والسيطرة والتحكم، فكانت هرمز أول محطات البرتغاليين في المشرق، حين جاء أشرس قادتهم "الفونسو دو البوكيرك" ذلك المجرم القاسي، الذي عاث فسادا في جنوب جزيرة العرب والخليج العربي، فكانت هرمز أولى محطات اهتمامه وسيطرته في بداية القرن السادس عشر، وكانت كذلك هزيمته النهائية في هرمز بعد أن هزم في خورفكان.
والآن يعود هرمز مرة أخرى إلى واجهة الصراع الدولي، والغريب في الأمر أن طريقة التعامل مع أصل المشكلة، وهي النظام الحاكم في إيران معروفة وواضحة، وأن التهديد الذي يواجهه العالم هو النظام الإيراني، وسلوكه المهدد للسلم والأمن الدوليين؛ سواء في اليمن أو العراق أو سوريا، أو في تهديد الملاحة الدولية في بحر العرب وبحر عمان ومضيق هرمز، وعلى الرغم من وضوح العدو ووضوح أفعاله ووضوح تهديداته، بل ووضوح أفعاله العدائية في ضرب ناقلات النفط وقرصنتها، إلا أن الموقف الدولي ترك إيران، بل يكاد أن ينسى إيران ويركز على هرمز، ويحشد القوى الغربية لإرسال قوات دائمة ترابط في هرمز لتأمين الملاحة في هرمز، وكأن من يهدد الملاحة الدولية مجهول غير معروف، لذلك لا بد من تأمين المكان ضد عدو مجهول.
هذا التحول الغريب في الخطاب العالمي من التركيز على مواجهة إيران إلى تأمين الملاحة في هرمز، وتحول هذا الخطاب السياسي إلى حالة كاملة من الجدل والرفض والقبول بين القوى الغربية، من سيرسل قوات؟ ومن لا يريد أن يرسل؟ هنا يثور السؤال: لماذا كل هذا التعامل مع حالة سياسية عابرة هي سلوكيات دولة هي إيران، ومن اليسير ردعها ووقفها عن تهديد الملاحة بوسائل متعددة؛ لعله يكون أولها تفعيل الفصل السابق من ميثاق الأمم المتحدة، خصوصاً المادة 51 من الميثاق، التي تعطي الدول حق الدفاع عن النفس، لماذا تتحول حالة وقتية إلى حالة دائمة؟ لماذا تكون معالجة التهديد الوقتي بوسائل دائمة تعبر عن أهداف ونوايا من طبقات جيولوجية أعمق في التحليل السياسي؟
وهنا يثور سؤال آخر: هل الغرب فعلا يقدر الخطر الإيراني بوزنه الحقيقي أم يضخمه ليوظفه؟ ولماذا يتم توظيفه؟ ولخدمة أيه أهداف يتم هذا التوظيف؟ ومن الذي سيوجه ضده هذا التوظيف؟ وهل إيران ذاتها شريكة في ذلك بصورة مباشرة أم غير مباشرة؟
هل هذا الحشد في هرمز موجه ضد القوى المستقبلية الصاعدة في الاقتصاد العالمي مثل الصين وروسيا؟ وهل هو عملية استباقية لتحقيق الحضور الغربي المهيمن على المياه الدولية في هذه المنطقة شديدة الأهمية على الاقتصاد العالمي؟ وهل إيران ترقص على هذا العزف الغربي، وتبالغ في أفعالها المستفزة لتبرير هذه الأفعال الغربية ولتجعلها منطقية وغير مفتعلة؟ وهل إيران ذاتها لها مصالح متوازية مع هذه الأهداف إن لم تكن متطابقة أو متقاطعة؛ مثل إرباك المشهد الاقتصادي في الخليج العربي والعالم ليشعر الجميع بخطورة ما تتعرض له من عقوبات اقتصادية، ومن ثم يسابق من أجل رفع العقوبات لأنه أضير بسببه؟
أسئلة كثيرة تفرضها حالة الانشغال الأمريكي والأوروبي بهرمز عن قم وطهران، على الرغم من أن الخطر الحقيقي يأتي من قم وطهران وليس من هرمز، والإجابة عن هذه الأسئلة تحتاج إلى قدرة على التنقيب في الطبقات الجيولوجية للسياسة الدولية، وهذه في ذاتها مهمة شاقة لا نستطيعها لأننا لا نملك التكنولوجيا المناسبة لها.
1
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة