التحركات الأمريكية وتشعب مساراتها وتنوع أهدافها هو الذي سيقيد مجال المراوغة الإيرانية، بما تفرضه وزارة الخزانة الأمريكية من عقوبات.
أعلن الرئيس الأمريكي ترامب عدم تجديد الإعفاءات على الدول المستوردة للنفط الإيراني التي يحل موعدها في مايو المقبل، وسيؤدي القرار الأمريكي إلى توقف الدول السبع، وهي الهند وتركيا واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وإيطاليا واليونان عن شراء النفط الإيراني. يستهدف القرار –الذي لم يكن مفاجئا- في مجمله تصفير صادرات النفط الإيرانية، باعتبارها مصدر الدخل الرئيسي للنظام الإيراني، ويحسم المواجهة المفتوحة على مصراعيها تجاه المراوغة الإيرانية المعتادة في ملف التعامل مع مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، خاصة أن الإدارة الأمريكية عاقدة العزم على تقييد الاقتصاد الإيراني من خلال فرض حصار على صادرات النفط الإيراني، وفرض قيود على التعاملات المالية الخارجية مع الدول التي تتعامل معها إيران، وهو ما سيطبق بالفعل المرحلة الثانية من العقوبات الأمريكية -حيز التنفيذ- والتي تمت منذ عدة أشهر، وستستمر في إطارها في ظل وجود توجه جمعي داخل مراكز التأثير السياسي الأمريكي باتباع استراتيجية الحسم مع النظام الإيراني، ومحاولة تغيير توجهاته التدخلية في الإقليم.
برغم ذلك، فإن القادم هو الأسوأ بالنسبة لإيران، حيث ستحتاج الولايات المتحدة من أجل نجاح استراتيجيتها النفطية إلى أن توفر لبعض الدول المستثناة بدائل نفطية، كما تحتاج بعض الدول وتحديدا تركيا والعراق إلى ممارسة ضغوط جادة من أجل إقناعها بعدم مساعدة إيران وطرح البدائل للخروج من الوضع الراهن
وكانت الإدارة الأمريكية قد منحت الاستثناءات الأخيرة لبعض الدول لتفادي تأثير خفض صادرات النفط الإيراني على أسعار النفط دوليا، إضافة إلى عدم تضرر هذه الدول التي تعتمد على النفط الإيراني، وكي لا تتعرض سوق النفط لضغوط حقيقية ومؤثرة لا تتحملها حركة التبادلات الدولية في الأسواق الغربية. وكانت بعض الدول المؤثرة والفعالة في سوق النفط قد وافقت على اتخاذ إجراءات وتدابير عاجلة لضمان تلبية الطلب الدولي مع خروج النفط الإيراني من السوق، حيت ستطرح السعودية دورا غير مسبوق في التعامل مع "أوبك" للنفط، وستحاول الدول الأعضاء الـ15 وحلفاؤها في "أوبك"، وضع خطط واتفاقيات لكميات إنتاج النفط، وفرض كل دولة شروطها. ولكن لتنجز تلك المهمة بنجاح، من الضروري مطالبة شركة أرامكو بأن تكون قادرة على زيادة الإنتاج إلى 12 مليون برميل يوميا في غضون ثلاثة أشهر فقط، مع الاحتفاظ بهذا المستوى لمدة عام واحد على الأقل، كما أن أي انقطاع غير متوقع في إنتاج النفط، سواء من ليبيا أو فنزويلا، أو أي موقع نفطي آخر، يمكن أن يؤدي إلى نقص في الاحتياطي لدى "أوبك".
والواقع أن هذا السيناريو سيتم في المدى المنظور لتعويض ما سيجري وفق مخطط بديل قائم على طرح سيناريوهات توافقية ومصلحية في المقام الأول، بدليل استمرار تشدد الإدارة الأمريكية في فرض القيود في حصول إيران على عائداتها من المبيعات النفطية بصورة كاملة من الدول التي كانت تتعامل معها، واقتصر التعامل المالي مع إيران على بعض السلع والبضائع المهمة والأدوية المستوردة التي تحتاج إليها السوق الإيرانية وفي ظل مراقبة أمريكية صارمة.
وكانت الإدارة الأمريكية قد وضعت أيضا العديد من الإشكاليات أمام تنفيذ آليات التبادل المالي الثنائي بين إيران والخارج من خلال حركة الأموال والاستثمارات والعائدات بما فيها الآلية الأوروبية لحرمان إيران من الاستفادة من عوائد بيع النفط، حيث فشلت آليات التبادل المالي الخاصة التي حاولت إيران تأسيسها مع بعض الدول بما فيها الآلية الأوروبية المقترحة، والآلية المقترحة مع روسيا والصين وتركيا، وكذلك آلية إنستكس التي أعلنت عنها الدول الأوروبية، وتتالي انسحاب كبريات شركات البترول الإقليمية والدولية من السوق الإيرانية.
كل هذه التحركات الأمريكية وتشعب مساراتها وتنوع أهدافها هو الذي سيقيد مجال المراوغة الإيرانية، بما في ذلك فرض وزارة الخزانة الأمريكية العديد من العقوبات على المصارف الدولية وإدراج العديد من الكيانات والأشخاص على قوائم الإرهاب، وتعقب بعض الشبكات في بعض الدول لتقديمها الدعم غير المباشر لإيران كي تتحايل على العقوبات المالية المستمرة. كما مارست وزارة الخزانة ضغوطا على بعض الدول الآسيوية من أجل الالتزام ببرنامج العقوبات على صادرات النفط الإيرانية.
وستؤدي كل هذه الخطوات الأمريكية -غير المسبوقة- بعد تفعيلها إلى تزايد المشكلات الداخلية في إيران، وتتالي حالة الحراك الشعبي، وتنامي المظاهرات الدورية في عدة مدن إيرانية، وهو ما دفع النظام الإيراني لتبني سياسة تقشف وسياسة مالية صارمة لمواجهة أزمة عدم توافر العملة الأجنبية؛ نظرا لأن 80% من دخل إيران يأتي من مبيعات النفط.
في كل الأحوال ستعود إيران للمراوغة بأساليب جديدة قديمة، ومنها دعم مجالات التعاون مع بعض دول الجوار لا سيما مع العراق الذي يظل بحاجة لإمدادات الغاز والكهرباء من إيران، وكذلك تركيا التي تعتقد أنها لا يمكنها الاستغناء عن النفط الإيراني في الوقت الحالي، إضافةً إلى القيام من خلال الشركات العاملة في الأسواق السوداء بعمليات التهريب الدولية، والتي سبق لإيران التعامل معها خاصة دول الجوار وروسيا.
وبرغم ذلك فإن القادم هو الأسوأ بالنسبة لإيران، حيث ستحتاج الولايات المتحدة من أجل نجاح استراتيجيتها النفطية إلى أن توفر لبعض الدول المستثناة بدائل نفطية، كما تحتاج بعض الدول وتحديدا تركيا والعراق إلى ممارسة ضغوط جادة من أجل إقناعها بعدم مساعدة إيران وطرح البدائل للخروج من الوضع الراهن، وفي ظل مخاوف تعريض سوق النفط لعدم الاستقرار مع عدم الدخول في خلافات جديدة مع بعض الدول كالصين وروسيا بشأن التعامل المستقبلي مع تبعات الملف الإيراني.
والسؤال هل يمكن للإدارة الأمريكية التخطيط للتدخل المباشر في إيران فعليا؟ وما إمكانياتها وقدراتها وتوجهاتها المعلنة والمستترة في هذا الإطار بعيدا عن سيل التقارير المتضاربة والمتجاذبة، والتي تشير إلى أن الإدارة الأمريكية غير راغبة في اتباع عمل عسكري ضد إيران على الأقل حتى الآن، وهو ما أكده وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو من أن إدارة الرئيس دونالد ترامب لا تخطط ولا تسعى لإحداث انقلاب أو التدخل عسكريا في إيران، لكنها تتطلع إلى قيادة جديدة في إيران، التي لا يوجد في نظامها الراهن أي شخص معتدل، ومن ثم فإنها ستستمر في اتباع استراتيجية التغيير المرحلي الهادئ بدون صدامات عسكرية أو مواجهات مباشرة قد تؤدي إلى مزيد من الصدام الحقيقي خاصة مع التغيير الجاري في رموز المؤسسة العسكرية الإيرانية بعد إدراج الولايات المتحدة، الحرس الثوري الإيراني في القائمة الأمريكية للمنظمات الإرهابية، في سابقة كانت الأولى من نوعها.
نحن إذاً أمام سيناريوهات مفتوحة في التعاملات الأمريكية القادمة تجاه إيران لكن من المؤكد أن الإدارة الأمريكية ماضية في نهجها بصورة كاملة في حرث الأرض تحت أقدام النظام الإيراني، ولن تهدأ من إجراءاتها في ظل إجماع أمريكي داخل الإدارة الأمريكية وخارجها بأن النظام الإيراني لن يفلت من تطبيق العقوبات، ولن تكون أمامه خيارات عديدة للتحرك بل سيحاصر وستقيد حركته إقليميا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة