جميع الخيارات في الخصومة مع الولايات المتحدة مؤذية، وكل السبل للالتفاف والتحايل على عقوباتها مسدودة في نهايتها.
هذا هو الدرس الذي تعلمته إيران بعد انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي المبرم عام 2015، وهذه هي القناعة الراسخة التي ستذهب بها إلى محادثات فيينا "غير المباشرة" مع واشنطن، فمنذ انسحاب الرئيس السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي في عام 2018 لم تترك إيران باباً إلا وطرقته لتنفيذ الاتفاق بعيدا عن أمريكا، أو التملص من عقوباتها التي أرهقت كاهل الإيرانيين نظاماً وشعباً، ولكن الجهود ذهبت هباء منثوراً، ولم يبقَ إلا الجلوس على طاولة التفاوض.
الرئيس حسن روحاني وعموم الإصلاحيين في إيران ترقص قلوبهم فرحاً؛ لأن باب الحوار مع أمريكا فتح قبل أن تفتح صناديق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية خلال شهر يونيو/حزيران المقبل، وهم يتمنون عودة أمريكية سريعة للاتفاق النووي تبقيهم على رأس السلطة لسنوات أربع مقبلة، صحيح أن لا شيء في طهران يتم دون موافقة خامنئي، ولا يجرؤ أحد على مفاوضة الأمريكيين دون قبوله، ولكن الصيت في نهاية المطاف ستحصده الحكومة التي أذن لها الولي الفقيه بالحوار مع الإدارة الأمريكية، وإتمام الصفقة التي بات يتمناها النظام قبل الشعب، بعد أن استنفد كل أدواته في مواجهة "العدو الأكبر".
لا يمانع المحافظون والمتشددون في إيران خسارة الانتخابات المقبلة مقابل إعادة الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة إلى الحياة، فهذا الاتفاق يقيهم أخطار الثورات الشعبية الناقمة عليهم وعلى النظام الذي ينعمون في ظله بخيرات البلاد، كل المؤشرات تقول إن رياح الاحتجاجات بدأت تهب على مناطق مختلفة في إيران، وضيق العيش بلغ حدًّا لم تعد تجدي فيه مهدئات من قبيل مساعدات غذائية أو مالية مخزية، ولا يقنع الناس فيه بمبررات مثل ضرورات الأمن القومي، أو تعزيز نفوذ "الإمبراطورية الفارسية" عقائديا وعسكريا، أو غيرها من الأكاذيب التي اخترعتها ونشرتها "الثورة الإسلامية".
مذكرة التفاهم مع الصين ربما كانت الورقة الأخيرة للإيرانيين في معركة الشد والجذب مع الأمريكيين، رموا بها ليستجدوا عطف إدارة الرئيس جو بايدن، وليس ليضغطوا عليها كما حاولت أبواق طهران الترويج للأمر، أرادوا التأكيد على أنهم سيلجؤون إلى بكين مجبرين وليسوا مخيرين إن لم تعد أمريكا إلى الاتفاق النووي، لسان حالهم يقول إن الصينيين قد يشترون النفط الإيراني، ولكن الأمر سيكون مقايضة للذهب الأسود بالطعام والدواء، ربما يجددون موانئ إيران على سواحل الجنوب، ولكن ذلك سيكون أشبه بحصار تخسر فيه طهران سيادتها على موانئها وحدودها البحرية، وتتنازل فيه عن دورها في الملاحة الدولية لمدة خمسة وعشرين عاما كاملة.
حتى وإن قبلت إيران بالتماهي مع الصين في كل بنود مذكرة التفاهم التي وقعتها الدولتان ولا يزال الغموض يكتنف الكثير من تفاصيلها حتى الآن، فهل يمكن الرهان على بكين في التحرر من العقوبات الاقتصادية الأمريكية؟ هل يمكن للشركات الصينية أن تتجاهل هذه العقوبات وتستثمر بشكل طبيعي في السوق الإيرانية؟ الإجابة السريعة وفقا للتجربة هي لا، فشركة البترول الوطنية الصينية انسحبت من تطوير المرحلة الحادية عشرة من حقل بارس في أكتوبر عام 2019، بمجرد انسحاب شركة توتال الفرنسية من المشروع تجنباً للعقوبات التي فرضها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على إيران.
عرضت إيران حينها الصفقة كاملة على الصينيين، وكانت قيمتها تقارب خمسة مليارات دولار، ولكن بكين اختارت عدم المواجهة مع واشنطن، لا يبدو أن الأمر قد تغير بعد نحو عامين، ولا يزال التنين الصيني يتجنب الصدام مع القطب الأمريكي رغم كل هذا التوتر الذي يسود العلاقة بينهما، وحتى لو فرضت هذه المواجهة بين الطرفين لأي سبب كان، فإن طهران ستكون ساحة صراع وتصفية حسابات بينهما، حالها في هذا حال كثير من المناطق التي بات الصينيون يهيمنون عليها بأموالهم وقواعدهم العسكرية في قارات العالم القديم، فهل هذا ما يريده الإيرانيون؟ وهل هم مستعدون لهذه التضحية؟
كل تلك الضحكات التي كان ينشرها المسؤولون الإيرانيون عند توقيع مذكرة التفاهم مع الصينيين، كانت تخفي كثيرا من القلق والخوف من قدوم لحظة يضطرون فيها إلى تحويل هذه المذكرة إلى اتفاقية ملزمة لهم، وإن صدقنا بعكس ذلك فإن حاجة إيران للاتفاق النووي لم تنتفِ؛ لأن أي اتفاقية مع الصين لن تأخذ مداها في التنفيذ إلا إن تحررت طهران من العقوبات الأمريكية، وهو ما يتم إما عبر إبرام اتفاق نووي جديد مع واشنطن، وإما من خلال تعديل الاتفاق الحالي بما يخدم مصالح جميع الأطراف المعنية بالاتفاق، وهذا يشمل دول المنطقة طبعا، إن صدقت الروايات الأمريكية والأوروبية.
هناك من يستدعي القلق الذي أعلنه الرئيس جو بايدن من مذكرة التفاهم بين طهران وبكين، ويقول إنها هي من جلبت أمريكا لطاولة التفاوض مع إيران في فيينا، ولكن من كان يرفض التفاوض أصلا وتراجع عن موقفه؟ أليست إيران هي من كانت ترفض الحوار مع أطراف الاتفاق حتى في لقاءات غير رسمية؟ ألم تشترط عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي، أو رفع العقوبات عنها قبل أن تبدأ الحوار مع أمريكا؟ أليس من المفترض أن يكون موقفها بعد توقيع مذكرة التفاهم مع الصين أكثر قوة إن كان قلق بايدن في مكانه؟ كما يقول سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الأميرال علي شمخاني.
في المحصلة، لن تأتي إيران إلى فيينا إلا بدافع عشمها بمكرمات مشابهة لما قدمه الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، وهذا العشم عززته تصريحات بايدن وأعضاء حكومته، سواء التي تتحدث عن عدم رغبتهم بتغيير الأنظمة ونشر الديمقراطيات حول العالم بالقوة، أو تلك التي تقول إن عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي لا تحتاج إلا لتراجع إيران عن انتهاكاتها لهذا لاتفاق، لن يطول الأمر حتى تتكشف نوايا إدارة البيت الأبيض إزاء طهران ومنطقة الشرق الأوسط ككل، وعندما يخرج الدخان الأبيض من فيينا سنعرف الفارق بين أوباما وبايدن، ونستشرف على ضوئه ما ينتظر المنطقة حتى 2025.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة