عندما شرعت في كتابة مقالي هذا عادت بي الذاكرة إلى الزيارة الوحيدة التي قمت بها للعراق عام ٢٠٠٣.
لتغطية الحرب التي شنها الرئيس جورج بوش “الابن” على العراق بعد صدور قانون عام ٢٠٠٢، الذي يحق من خلاله للرئيس الأمريكي أن يشن هجمات وحروباً خارج الولايات المتحدة الأمريكية بدون الرجوع للكونجرس والجهات الرسمية في الدولة وهو يختلف عن قانون ٢٠٠١ الذي يسمح للولايات المتحدة باستخدام القوة العسكرية حينما ترى تهديداً للأمن القومي سواء كان داخل أم خارج الحدود بعد موافقات رسمية واطلاع الكونجرس والبنتاجون عليها.
اليوم وساعة أن أعلن مشرعون أمريكيون من الحزب الديمقراطي أنهم سيعملون خلال أيام على تشريع لتعديل تفويض استخدام القوة العسكرية، الذي استعمله رؤساء من الحزبين لعقود متعددة لتبرير هجمات خارج الولايات المتحدة، عاد الاهتمام بالشأن العراقي إلى أروقة السياسة الأمريكية بقوة، حيث أعلن على الفور النائب غريغوري ميكس أن لجنة الشؤون الخارجية التي يرأسها بمجلس النواب ستبدأ في مناقشة إلغاء "تفويض استخدام القوة العسكرية" الذي سمح بالحرب في العراق عام 2002، وقال مع مجموعة من النواب الديمقراطيين ما نصه: أنوي تجهيز تشريع في لجنة الشؤون الخارجية في الأسابيع المقبلة لإلغائه “التفويض”.
خلال الأيام الماضية، التقيت هنا في واشنطن بعض الساسة الأمريكيين المقربين من نائبة الرئيس، وفهمت أن هذا الإعلان من النائب ميكس قوبل أيضاً بسعي من أعضاء في مجلس الشيوخ إلى إعادة سلطة إعلان الحرب إلى الكونجرس من البيت الأبيض.
ودعوني هنا أحاول تتبع هذه القضية الحساسة منذ الأيام الأولى لعهد الرئيس بايدن، فليس منا ببعيد أنه وفي أعقاب ضربات جوية في سوريا أمر بها الرئيس جو بايدن، طرحت مجموعة من الحزبين في الثالث من مارس/آذار تشريعاً لإلغاء تفويض استخدام القوة العسكرية في العراق عام 2002، وتفويض آخر أقر في عام 1991، حيث يمنح الدستور سلطة إعلان الحرب للكونجرس وليس الرئيس. وتغيرت هذه الصلاحية بعد إقرار الكونجرس تصاريح "استخدام القوة العسكرية" التي لا تنقضي بموعد محدد، وذلك في قرارات متعلقة بالعراق وفي تفويض أجاز الحرب على تنظيم القاعدة في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001.. وعموما فإن "تفويض استخدام القوة العسكرية" استخدم أكثر من 40 مرة لتبرير هجمات في 19 بلداً.
اليوم بعد أن قال الرئيس جو بايدن إنه ينبغي مراجعة تشريع "تفويض استخدام القوة العسكرية" يمكننا طرح التساؤل الآتي: هل ستنهي أمريكا حروبها في المنطقة؟ وهل ينبغي لأي تفويض جديد قد يمنح للرئيس أن يحمل موعداً محدداً وأن ينطبق على دول محددة وأن يتم التشاور بشأنه مع الكونجرس؟
أيضا ما أسباب الاعتراضات المتصاعدة في الكونجرس في هذا الشأن؟
ويبقى السؤال المحوري: كيف يمكن أن يؤثر إلغاء التفويض بالحرب في جاهزية وقدرة الولايات المتحدة العسكرية على مواجهة الاستفزازات الإيرانية في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق؟
نهاية الأسبوع الماضي، أقرت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي إلغاء تفويض الحرب في العراق الذي مرره الكونجرس عام 2002، وصوّتت اللجنة بأغلبية أعضائها لإلغاء هذا التفويض بحجة أنه قديم ولا يتجاوب مع التهديدات الحالية التي تواجهها الولايات المتحدة. وعاد رئيس اللجنة الديمقراطي غريغوري ميكس ليقول إن هذا التفويض ليس لديه أي فائدة فعلية وإن "هناك تهديدات متواصلة من المليشيات المدعومة من إيران وتهديدات أخرى من تنظيمي “داعش” و”القاعدة”. لكن تفويض عام 2002 لا يساعدنا على مواجهة هذه التهديدات"، كما قال.. أيضاً فإن بعض المشرعين في واشنطن يقولون إن الرئيس بايدن يريد التشاور حول تفويض جديد يتماشى مع الطبيعة المفتوحة للضربات الأمريكية في الخارج لمواجهة التهديدات الإرهابية والحديث هنا ولا شك يضع الإرهاب الإيراني الذي تتوقعه الولايات المتحدة في أعلى سلم الأولويات المحتملة، لكن القرار في أكبر نظام ديمقراطي في العالم ليس بهذه السهولة القانونية، وكلنا رأينا أنه في الأيام التي أعقبت الضربات الجوية التي شنتها القوات الأمريكية على سوريا، شكك المشرعون في الكونجرس في المبرر القانوني الذي ساقته إدارة الرئيس جو بايدن لشن الهجمات على مليشيات تابعة لإيران في سوريا، ورد عليهم الرئيس بايدن بأنه أمر بالضربات دفاعاً عن النفس بعد أن استهدفت جماعات مسلحة مدعومة من إيران القوات الأمريكية بهجمات صاروخية، ولم يُرضِ مطلقاً هذا التفسير بعض الأعضاء الديمقراطيين والجمهوريين في مجلس الشيوخ.
اليوم تتصاعد التوترات بين الولايات المتحدة وإيران بسبب استمرار الاستفزازات الإيرانية، وليس آخرها عندما عادت إيران لتفشل مساعي الدول الخمس لإعادة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي بسبب تعنتها في آخر لحظة، وقد تشجع هذه الدولة حلفاءها في العراق مجدداً على شن هجمات صاروخية ضد قواعد تشمل قوات أمريكية، عندها بالتأكيد ستضطر إدارة الرئيس بايدن إلى البحث عن بدائل قانونية للرد على طهران بما يتناسب مع الفعل الإيراني، ولكن دون إثارة غضب أعضاء الكونجرس الذين يتخوفون من انزلاق الإدارة الأمريكية في حرب مع طهران أو غيرها من الخصوم من دون الحصول على تفويض من الكونجرس بشن الحرب مثلما فعل الرؤساء الأمريكيون السابقون، الذين استندوا إلى تفويضات سابقة من الكونجرس ولكن كان صدورها في ظروف مختلفة تماماً.
وهنا أذكر بعض المعترضين على الهجمات التي شنتها وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) على مواقع تابعة للمليشيات المدعومة من إيران في سوريا بالمادة الثانية من الدستور الأمريكي التي تمنح القائد العام للقوات المسلحة الأمريكية ليس فقط السلطة، ولكن الالتزام بحماية القوات الأمريكية، فضلاً عن المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تعطي الدول الأعضاء الحق في الدفاع عن النفس.
خلال الأيام القليلة المقبلة سيتم التصويت على هذا القانون والقاضي بإلغاء تصريح أُعطي للرئيس الأمريكي بشن الحروب وتوجيه ضربات خارج أمريكا، وسوف تسحب هذه الصلاحية بالكامل من الرئيس الحالي بايدن والقادم أيضاً، وسوف يكون للكونجرس الأمريكي حصراً أحقية التصويت على هكذا قرارات مصيرية وحاسمة في حال تم إقرار القانون، لكن ماذا تريد إدارة بايدن في هذه القضية من الكونجرس؟
في المعلن أنها تريد التعاون مع الكونجرس لإلغاء "تفويض استخدام القوة العسكرية" الذي اعتُمِد في عامي 2001 و2002 واستبدال "إطار عمل خاص ومحدود يضمن حماية الأمريكيين من التهديدات الإرهابية تزامناً مع إنهاء الحروب اللامتناهية" به. وبعبارة أخرى، يريد الرئيس بايدن أن يحدّ نطاق التفويض الذي تستعمله القوات الأمريكية راهناً لإطلاق عملياتها، ما يعني إضعاف قدرته الخاصة على إصدار الأوامر بالتحرك.
بالعودة لقانوني عامي ٢٠٠١ و٢٠٠٢ نجد أن هذين القانونين توسّعا بما يتجاوز هدفهما الأصلي خلال السنوات اللاحقة، فقد كان قانون عام 2001 يهدف في الأصل إلى السماح بإطلاق تحرك عسكري ضد تنظيم "القاعدة" تحديداً، لكن لجأ إليه الرؤساء جورج بوش الابن وباراك أوباما ودونالد ترامب لتبرير مجموعة واسعة من التحركات الأخرى، منها مهاجمة تنظيم "داعش" وكذلك الضربات العسكرية ضد مواقع للدولة السورية، ورغم الإعلان عن انتهاء الحرب رسمياً في العراق في عام 2011، لجأت إدارة أوباما إلى "تفويض استخدام القوة العسكرية" من عام 2002 واستعملته "كأساس قانوني بديل" لإطلاق حملة ضد "داعش"، كذلك أعلنت إدارة ترامب مسؤوليتها عن اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني في يناير 2020 بموجب القانون نفسه.
وبالتالي فمن المنطقي إذاً أن يحاول بايدن استبدال هذه التبريرات بتشريع يناسب الظروف الراهنة ويتماشى مع المتطلبات العسكرية المستجدة حتى لو بدت للبعض أن تحركات الرئيس بايدن تبدو مربكة، حيث يتساءل الجميع عن إصراره وكذلك فريق عمله على الدفع إلى تفضيل "إطار عمل خاص ومحدود" قد يكبح حرية تحركهم في نهاية المطاف، فهو كمن يكبل نفسه ويمنعها من صلاحيات اتخاذ خطوات الحرب.
لطالما شغلني وشغل غيري في واشنطن هذا التساؤل عن موقف الرئيس هذا الذي يجاهر به معظم فريقه وقد خرجت بخلاصة تنطلق من الآتي:
وهو أن الرئيس بايدن أمضى معظم مسيرته السياسية في الكونجرس وترأس لجنة العلاقات الخارجية، فهو إذاً لا يجهل أن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة أعطوا صلاحية إعلان الحروب للكونجرس، لا للرئيس، وأيضا فإنه حين يضطر أعضاء الكونجرس للتصويت لتفويض استعمال القوة أو ضده، فإنهم يتحملون مسؤولية قرارهم الذي قد يترافق أحياناً مع تداعيات بارزة. وبالتالي فهدف بايدن هنا كما أفهمه هو أن يُصعّب على أعضاء الكونجرس البقاء على هامش التطورات لاحتمالية أن يطلب منهم مستقبلاً التصويت لإقرار نسخة جديدة من "تفويض استخدام القوة العسكرية" وهذا سيكون خطوة ذكية جداً.
الحديث خلال هذه الساعات عما يمكن أن يعرف بالنسخة "الخاصة والمحدودة" من "تفويض استخدام القوة العسكرية" والذي سيشكل المخرج المناسب في حال خوض مغامرات عسكرية جديدة.. في خلاصة أولية فإن تضييق نطاق "تفويض استخدام القوة العسكرية" لا يعني أن الرئيس بايدن سيتخلى عن جميع صلاحياته المرتبطة بالعمليات العسكرية الأمريكية، وسيحتفظ بصلاحيات كثيرة لاستعمال القوة حين يشاء، لا سيما إذا أراد الرد على تهديدات وشيكة ومباشرة، أو الدفاع عن الحلفاء، أو حماية حياة الأمريكيين في الخارج.. نعم، بالتأكيد هناك العديد من المشرعين المنتخبين حديثاً، خاصة من أقصى اليسار واليمين يتفقون على أن الكونجرس في حاجة ضرورية إلى استعادة دوره الأصلي في اتخاذ قرارات الحرب، لكنهم يعترفون أيضا بأن الرئيس بايدن يريد العمل معهم في قضية إصلاح قانون التفويض بالحرب.. وفي خلاصة نهائية أقول إنه لن تكون سهلة أبداً تلك المحاولات المتجددة في الكونجرس لاستعادة سلطة قرار الحرب وسحبها من الرئيس، كما أن قدرة الرئيس بايدن على توجيه ضربات انتقامية ضد إيران لن تتأثر كثيراً، بعد ما تأكد اليوم من تعنت إيران في التفاوض ومحاولة فرض شروطها على واشنطن واستمرار تشجيع مليشياتها على مهاجمة القوات الأمريكية في العراق، ما قد ينتهي إلى توسيع نطاق وحجم الضربات المتبادلة في إطار سياسة اختبار الخصم، وهو ما ينذر بسيناريو أسوأ قد يدفع بايدن إلى استخدام المبررات نفسها التي استخدمها الرؤساء السابقون، ذلك أن الإرهاب في العالم باقٍ ويأخذ أشكالاً أخطر تتحول فيها النظم والحكومات وللأسف راعية وداعمة لوكلاء من المليشيات المنتشرة في العالم تحت رعاية ملالي طهران.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة