إيران يجب أن تدرك أن الاستمرار في نهجها الراهن قد يدفع إلى نقل ملفها إلى مجلس الأمن لإعادة فرض وتفعيل منظومة العقوبات التي فرضت عليها.
بعد الإعلان الإيراني عن تقليص التزاماتها بالاتفاق النووي لعام 2015، ورفع معدل تخصيب اليورانيوم نكون أمام مرحلة جديدة من المواجهات الإيرانية الأمريكية من جانب والإيرانية الأوروبية من جانب آخر، خاصة أن إيران تدرك جيدا أن الاستمرار في هذا النهج غير المسبوق قد يؤدي إلى نهاية المطاف لإفشال الاتفاق واقعيا، خاصة مع التقييم بأن الولايات المتحدة لن تصمت كثيرا في ظل الضغوطات على الرئيس ترامب بضرورة التعامل بحزم مع إيران، وعدم انتظار ردود الفعل الإيرانية.
ولكن سيبقى السؤال المطروح بالفعل ماذا تنتظر الإدارة الأمريكية والرئيس ترامب شخصيا؟ وهل سيستمر في تردده وتراجعه سياسيا واستراتيجيا مع الموقف الإيراني بأكمله سواء في الوكالة الدولية أو في مجلس الأمن، متبنيا موقف الاستمرار في التفاوض، والتعايش مع الخطر الإيراني؟
لقد سبق أن أعلنت إيران اتخاذها إجراءات لم تفصح عنها طوال الـ60 يوما باستثناء بعض القرارات التكتيكية الخاصة بالأمور الفنية والتقنية للعمل على تخصيب اليورانيوم، والانتقال لمرحلة جديدة من العمل داخل مفاعل آراك تحديدا، كما أن إنتاجها من اليورانيوم لن يفعل إلى المستوى التقني المطلوب داخل مفاعل طهران، متذرعة بأن ما تقوم به من إجراءات لا يعد اختراقا أو خروجا من جانب واحد من الاتفاق، وأنها تتعامل وفقا لبنود الاتفاق التي ما تزال ملتزمة به في إطار الجانب الأوروبي الذي ما زال يبحث عن حل، ويسعي للاستمرار في مساره الراهن إلى أن تحين ساعة التغيير الكاملة للاتفاق الجديد.
إن إيران تسعى في الوقت الراهن لنقل رسالة مفادها أنها تمتلك أوراق ضغط حقيقية في مواجهة الجانبين؛ الأمريكي والأوروبي معا، وأنها لن تقدم على المبادرة بالتفاوض، بل بالعكس تسعى لتحسين شروط التفاوض بصورة كبيرة، والانتقال من سياسة تلقي الشروط لطرح السياسات والمبادرة بتصدير المواقف، وعدم الخروج الكامل من الاتفاق بصورة كاملة مع التأكيد على أن ما تقوم به إيران يتسق مع بقاء الاتفاق.
كما تبقى الرسالة موجهة إلى الجانب الأوروبي الساعي للاستمرار برغم إدراكه حجم المراوغات الإيرانية الكبيرة التي تقوم بها في الوقت الراهن، خاصة أن تخصيب اليورانيوم بالنسبة المحظورة يلقى بالفعل تنديدا نظريا من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين وروسيا مع الفارق في المواقف والتعامل مع المخاطر المحتملة لما سوف تسفر عنه تطورات الموقف الإيراني، خاصة أن إيران تربط موقفها الأخير ومواقف أخرى مطروحة في المشهد بالقرار الأمريكي بالخروج من الاتفاق بشكل أحادي الجانب، ومعاودة فرض العقوبات على إيران، ومع ذلك تتحرك في مسارات الخروج، والبحث عن اتجاهات جديدة للتعامل مع الجانب الأمريكي بكل ما يملكه من عناصر قوة ما تزال كامنة برغم كل التهديدات الأمريكية وحرص الإدارة على التماسك والاستمرار في إدارة المشهد سياسيا، والتأكيد على عدم الرغبة في المواجهة العسكرية، وهو ما تستثمره الدولة الإيرانية جيدا، وتراهن عليه. ومن ثم فإن جزءا كبيرا من المخطط الإيراني يعتمد على إطالة أمد المشهد والعمل على مراجعة سياسة العقوبات الأمريكية التي تتصور الإدارة الأمريكية أنها تفعل بصورة لافتة ومؤثرة، وبدأت تؤتي ثمارها داخل إيران، بل في نمط تفاعلاتها السياسية والاستراتيجية والاقتصادية، وهو أمر لم يعد يطول المخطط الأمريكي بتغيير سلوك النظام الإيراني فقط في الإقليم، بل بمساعي تصفير النفط الإيراني، وتحجيم أي حركة حقيقية لقطاع البنوك والمصارف، وحركة رؤوس الأموال ونقل الاستثمارات من وإلى داخل إيران.
والواضح أن إيران ستخسر أوروبيا في حال المضي قدما في الضغط على دولها ودفعا للقيام بدور ضاغط على الإدارة الأمريكية، وبهدف الالتفاف على الحظر الأمريكي، ولا سيما على صادراتها النفطية، وإلا فإنها ستستمر في مخالفة النصوص الأخرى في الاتفاق خاصة مع عودة الرئيس حسن روحاني للغة التهديد.
الرسالة الإيرانية واضحة في هذا السياق، وأنه لا تراجع عن مخطط التصعيد مع العمل على إدارة أفضل للتفاوض على أسس ومرتكزات سياسية واستراتيجية معا، خاصة أن إيران تدرك أن تشعب البحث عن حل والاتجاه لمسارات بديلة تفاوضيا سيخدم السياسات الإيرانية في مجملها ليست فقط الخاصة بالبرنامج النووي، ومفاوضاته الراهنة والمحتملة، بل بأجندة التفاوض السياسي والاستراتيجي المقترحة، والتي تدخل العلاقات الإيرانية العربية والإقليمية على رأسها بالفعل، وسترتبط بقبول أو رفض الحضور الإيراني في الإقليم بأكمله، ومن ثم فإن إيران ستستمر في خطها العدواني، ولن تتراجع بالفعل مستثمرة التردد الأمريكي، والارتباك الأوروبي، مع الاستمرار في نقل الرسائل المتضاربة والمتناقضة شكلا والمتسقة في المضمون، وبما يخدم السياسة الإيرانية في الإقليم وخارجه .
وبالتالي، فإن الانتقال من هذا المشهد الحالي إلى مشهد آخر مرتبط بموقف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والتي من المفترض أن تبحث عن مسار جديد في التعامل مع إيران، ومن داخل مجلس المحافظين، وهو الأمر الذي لن يخرج عن أمرين؛ إما دراسة الخروقات الإيرانية التي تمت في الفترة الماضية بناء على المطلب الأمريكي والتأكيد على حدوثها، وإما البحث عن مسار تفاوضي جديد يشمل الأطراف الأوروبية، ويذهب بالتعامل مع المطلب الأمريكي وردود الفعل للوكالة انطلاقا من تحديد مهام المفتشين الدوليين، وطبيعة ما يقومون به داخل إيران، وهو ما يعرف باسم التحقق في المواقع، ومراقبة السلوك الإيراني في تنفيذ الالتزامات المقررة في الاتفاق.
وفي كلا الأمرين، فإن على الوكالة الدولية ليست فقط الاستجابة للبحث في الحالة الإيرانية التزاما أو تنصلا من الاتفاق النووي، بل أيضا كيفية تحديد الطريقة والمسار الذي ستتعامل معه الوكالة، أي أننا سنبدأ مع إيران من الخطوة الأولى، وهو الأمر الذي يخدم السياسات الإيرانية في الوقت الراهن برغم التحفظات الإيرانية على تدخل الوكالة الدولية في المشهد الحالي، والتأكيد على أنها غير مختصة بالبحث في المواقف الإيرانية المتصاعدة تجاه الاتفاق، وما يجري بشأنه، وهو ما يجب الحذر من تداعياته، خاصة أن إيران ستعتمد على مسارات موازية وسيناريوهات بديلة، ولعل قيام العلماء الإيرانيين بالتأكيد على الخيارات التقنية والفنية إلى جانب الخيارات السياسية هو ما سيدفع المفاوضين السياسيين للتصعيد، بل الرهان على إدارة المشهد من منطلق آخر، وهو ما يجري الآن، وبالتالي فإن المسألة تتجاوز مخطط زيادة إنتاج اليورانيوم للأنشطة السلمية.
تبقى الإشارة إلى ضرورة التأكيد على أن إيران يجب أن تدرك -وهذا غائب تماما- أن هناك مجتمعا دوليا حقيقيا وليس شكليا، وأن الاستمرار في نهجها الراهن قد يدفع بالفعل إلى نقل الملف الإيراني بأكمله إلى مجلس الأمن الدولي المخول بإعادة فرض وتفعيل منظومة العقوبات التي فرضت عليها، وبالتالي فإن تفعيل هذا الأمر سيتطلب بالفعل موقفا موحدا في المجلس، وليس متعدد المواقف، خاصة مع الدعم الروسي الصيني للنهج الإيراني، وهو ما قد يشجعها على الاستمرار في المراوغات والرهان على الفشل من داخل مجلس الأمن ذاته، حيث ستسعى أوروبا وروسيا والصين لتسوية التطورات الجارية بدون إحالتها إلى مجلس الأمن الدولي، خاصة أن إيران تدرك أن هذا الأمر سيكون خاتمة ما سيتم طرحه للتعامل مع الموقف الإيراني بأكمله، وسيعني فعليا انتهاء مرحلة المهادنة مع إيران، وسيبقى البديل المطروح ومن زاوية أخرى سقوط الاتفاق وانهياره فعليا والبدء من المربع رقم صفر.
وهذا ما قد يتيح التعامل مع إيران من سيناريوهات أكثر وضوحا، وفقا لموقف إيراني مستجد، ليس فيه أنصاف الخيارات وأشباه السيناريوهات التي تسعى إيران لإقراره والعمل فيه، والانتقال من تبني مواقف إلى تنفيذها، ولكن سيبقى السؤال المطروح بالفعل ماذا تنتظر الإدارة الأمريكية والرئيس ترامب شخصيا؟ وهل سيستمر في تردده وتراجعه سياسيا واستراتيجيا مع الموقف الإيراني بأكمله سواء في الوكالة الدولية أو في مجلس الأمن، متبنيا موقف الاستمرار في التفاوض والتعايش مع الخطر الإيراني ليس في التصعيد الاستراتيجي والخروج التدريجي من الاتفاق، بل أيضا في استمرار النزعة العدوانية والتدخل في دول الإقليم؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة