لقد أرسى زايد الخير رحمه الله وطيب ثراه في شعب الإمارات قيم السلام والخير، والعدل والمساواة، وجعل الإمارات نموذجا في صون حقوق الإنسان.
كانت المرة الأولى التي أرى فيها غرف العبادة هذه في مطارات العالم في بدايات تسعينيات القرن الماضي، وذلك في مطار أورلي في العاصمة الفرنسية باريس، أيام الدراسة والبحث والاجتهاد العلمي في عاصمة النور، ويومها بدت لنا فرنسا عاصمة تنويرية حقيقية، تقوم على الحفاظ على ميثاق حقوق الإنسان، وفي المقدمة منه حق الإنسان في العبادة، وتوفر للمسافرين جوا روحانيا يشحن طاقتهم قبل الإقلاع من الأرض إلى السماء، والعودة ثانية إلى الأرض بسلامة الله. وهناك الكثيرون الذين يودون أن ترتفع بهم أجنحة الطائرات، وهم في حالة من حالات النقاء والصفا الإنسانيين، اللذين لا توفرهما إلا أوجه العبادة .
تدشين غرفة العبادة في مطار أبوظبي دلالة مؤكدة على أن حديث الإمارات عن التسامح هو قول مقرون بعمل على أرض الواقع وليس تشدقا برايات فاقعة أو ارتفاع أصوات زاعقة، إنه قرار يرسم بعدا جديدا للتسامح والتعايش بين مختلف الأعراق والثقافات
كان المسجد في مطار "أورلي" ملاصقا لتلك الغرفة، التي عادةً ما تقام فيها شعائر الصلوات كل ساعة تقريبا، أو أقرب ما يكون الأمر إلى ذلك، ووقتها كان التساؤل: "هل يمكن أن يشهد عالمنا العربي ذات يوم تجربة مماثلة؟ أي يمكن أن نرى غرف عبادة داخل مطاراتنا العربية على نفس درب التجربة الفرنسية؟
بعد نحو ربع قرن يأتي الرد والجواب من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة، تلك الدولة القابضة على أبجديات المستقبل بقوة، والمتطلعة إلى الغد البعيد بأمل، والعازمة على النهوض بشعبها وبتجربتها بالعمل الإيجابي والخلاق مرة واحدة .
تنص المادة 32 من دستور دولة الإمارات العربية المتحدة على "حرية ممارسة الشعائر الدينية بما يتوافق مع التقاليد المتعارف عليها، شريطة ألا تتعارض مع السياسات أو تنتهك الأخلاق العامة"، هذا هو نهج الإمارات الذي تسير عليه، والذي يكفل لتجربتها احتراما فائق الوصف في الأرجاء كافة، من القاصي والداني، من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن مشرقها إلى مغربها .
ماذا يعني افتتاح غرفة العبادة لغير المسلمين في مطار أبوظبي؟
يعني احتراما رغم الاختلاف، وهي أرقى درجات الإنسانية، وأعلى مراتب التفكير الإنساني والوجداني السليم، فأنت أخي وأنا أحبك، رغم الاختلاف المؤكد بيننا، لكن ليس معنى أننا مختلفون هو أنه يجب أن نكون بالضرورة متناحرين أو متقاتلين .
تُثبت الإمارات العربية المتحدة يوما تلو الآخر أنها دخلت أبواب التسامح من أوسع أبوابه، وليس أوسع وأشرح وأبرح من باب تجاوز الخلافات الدوجمائية والعقائدية، تلك التي تسببت في حروب بين أصحاب الدين الواحد لعقود طوال، الأمر الذي شهدناه في أوروبا خلال سنوات الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، ولم يقدر لأوروبا النهوض وتجاوز كبواتها، إلا حين تركت من ورائها هذا الإرث غير الإنساني، وآمنت واعتقدت بجدية أنه من حق كل إنسان أن يعبد ما يشاء، ساعة يشاء، من دون وجل أو خجل، طالما أنه يحترم معتقدات الآخر .
تؤكد هذه المبادرة النوعية الإماراتية التي تتردد أصداؤها حول العالم في الأيام الأخيرة على الحرص على إعطاء رعايا الديانات الأخرى الحرية في ممارسة شعائرهم الدينية، حيث تخدم غرفة العبادة متعددة الأديان غير المسلمين من المسافرين عبر المطار، وكذلك مسافري "الترانزنيت" إضافة إلى العاملين في المطار من الديانات الأخرى.
هل هي مصادفة قدرية أم موضوعية أن يأتي أمر تدشين غرفة العبادة في مطار أبوظبي خلال عام التسامح الذي تعيشه الإمارات؟
تدشين غرفة العبادة في مطار أبوظبي دلالة مؤكدة على أن حديث الإمارات عن التسامح هو قول مقرون بعمل على أرض الواقع وليس تشدقا برايات فاقعة أو ارتفاع أصوات زاعقة، إنه قرار يرسم بعدا جديدا للتسامح والتعايش بين مختلف الأعراق والثقافات، ويجسد وحدة النسيج المجتمعي الذي يعيشه المجتمع الإماراتي، حيث السعي الدؤوب الدائم والمستدام من أجل خلق مجتمع متلاحم مبني على التسامح واحترام الآخر، يعمل الجميع فيه على تعزيز المشهد التنموي في البشر قبل الحجر .
هل من انعكاسات براجماتية مستنيرة إن جاز التعبير لهذا القرار الأخير على الإمارات؟
يمكننا التأكيد مرة جديدة على أن الإمارات في نهايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، قد أضحت قولا واحدا "رواق الأمم" المعاصرة، ذاك الذي عرفته الإمبراطورية الرومانية قبل نحو ألفي عام، وفيه كانت أراضي الإمبراطورية ملتقى شعوب وأجناس العالم.
الإمارات اليوم هي الوجهة المفضلة للعمل والسياحة والإقامة من مئات الملايين من البشر من قارات الأرض الستة، أولئك الذين يقصدونها لقضاء مصالحهم، بإدراك من أنها تسمو كل يوم عن الصغائر وتفتح الأبواب مشرعة أمام مساواة ومواطنة بغير حد أو مد، بل أنها بخطواتها الأخيرة تدشن مرحلة جديدة من مراحل رعايتها وعنايتها بالأقليات كافة، وتتيح لهم الاحترام الواجب، الأمر الذي ينعكس بردا وسلاما على حركة الاستثمار والتجارة والسياحة، وبقية جوانب الحياة في شكلها الحداثي يوما وراء الآخر، ما يعني أن الأمل يتجدد صباح كل شمس مشرقة، يحمل معه ازدهارا في القلوب والعقول، قبل أن ينصرف إلى بناء "مدينة الأحلام اليوتوبية ".
لقد أرسى "زايد الخير" -رحمه الله وطيب ثراه- في شعب الإمارات قيم السلام والخير، العدل والمساواة، من خلال التأكيد على أهمية أن تكون الدولة نموذجا فريدا في صون حقوق الإنسان واحترام حقه في الحياة.
واليوم يمضي قادة الإمارات المستنيرون على نفس الطريق، حاملين بأياديهم مشاعل التنوير، وسائرين على درب الأب المؤسس، مكملين مسيرة الانفتاح على الشعوب والأمم المغايرة، ومن ثم التلاحم معها في تآلف ورحمة، من دون تصادم في الزحام أو احتكاك في الظلام، بل عبر تراحم ومودة واحترام لثقافات الغير وأديانهم، وفي تطبيق لشريعة حقوق الإنسان التي باتت نبراسا للأمم الراقية والمتقدمة، ونحن على مشارف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
الخلاصة هي أن طريق المودات وبداية السفر ينفتح رحبا بمحبة خلاقة من مطار أبوظبي إلى بقية العوالم والعواصم، معلنا استعادة صفحة جديدة من تاريخ التسامح على أرض العرب، تسامح عرفته الأجيال السابقة وحان وقت اللاحقة للبناء والمراكمة عليه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة