عبدالمهدي.. باع وهم "العدالة" فأطاحت به صرخة المظلومين
رحيل إجباري من الباب الصغير يضيفه إلى لائحة طويلة من شخصيات بلاده، التي لطالما انتقدها بمقالاته، واعتبرها "رجالات خطابة وتنظير فقط"
عام وشهر واحد كانت فترة زمنية كافية جدا ليكتشف العراقيون أن رئيس حكومتهم عادل عبدالمهدي لم يغادر منطقة تفكير الطبقة السياسية التي كان ينتقدها في مقالاته، وشهران من الاحتجاجات أثبتا زيف أطروحاته التي كان يستنكر فيها إدارة الدولة بعقلية الاقتصاد الريعي.
- عبدالمهدي.. رئيس وزراء "العام الواحد" تطيح به انتفاضة العراق
- رئيس الوزراء العراقي: استقالة الحكومة كانت ضرورية لإنهاء الأزمة
عبدالمهدي صاحب جريدة "العدالة" التي كان يكتب افتتاحياتها حتى أكثر من شهر قبيل تسلمه منصبه، والرجل الذي وصل إلى سدة رئاسة الحكومة في أكتوبر/تشرين الأول 2018، كمرشح توافقي لأكبر كتلتين في البرلمان هما "سائرون" و"الفتح"، يحزم اليوم حقائبه استعدادا للرحيل.
رحيل إجباري من الباب الصغير يضيفه إلى لائحة طويلة من شخصيات بلاده، التي لطالما انتقدها بمقالاته، واعتبرها "رجالات خطابة سياسية وتنظير فقط"، وهو الذي استبشر العراقيون به أملا في تحسين أوضاعهم ومحاربة الفساد، قبل أن يكتشفوا محبطين بأن لا شيء يتغير في حياتهم سوى عقارب الساعة.
موجة مظاهرات حاشدة تجتاح العراق منذ شهرين، حاول خلالها عبدالمهدي الصمود أملا في هدوء قريب للعاصفة، قبل أن تجبره إحداثيات الغضب في الميادين وارتفاع القتلى، خصوصا في المحافظات الجنوبية، ودعوة المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني، على إعلان استقالته في موعد لم يحدده بعد.
إعلان استقالة لم يتكبد عناء الإشارة إلى حمام الدم في شوارع وميادين العراق، يمنحها طعم إقالة مرة من جهات دينية عليا، أكد عبدالمهدي في أكثر من مناسبة بأنها مرجعه ويمتثل لوصاياها.
وبهذا.. يستعد عبدالمهدي لمغادرة مقر الحكومة، مخلفا مسيرة قصيرة على رأسها، لكنها تنضح تضاربا بين مواقف ذلك الصحفي الذي وضع رؤية مثالية للتعامل مع المحتجين وانتقد السياسيين، والسياسي الذي فشل بتغيير مسار المعادلة باتجاه بناء الدولة، ويصف الاحتجاجات على أنها "صراع بين الدولة واللادولة".
عبدالمهدي.. الصحفي
في مقال كتبه بتاريخ 14 فبراير/شباط 2018، أي قبل تسلمه منصبه، كتب عبدالمهدي افتتاحيته المعهودة يوميا بصحيفة "العدالة"، وتزامن حينها مع مظاهرات حاشدة بعدة محافظات عراقية للمطالبة بتغيير الأوضاع الاقتصادية، وتوفير فرص عمل للعاطلين، سقط خلالها العشرات من العراقيين بين قتلى وجرحى.
وكتب عبدالمهدي يقول في مقال بعنوان "دعوات التظاهر.. حدودها وآفاقها": "هل نقف مع المظاهرات أم مع الحكومة؟ نقف ضد إجراءات الحكومة عندما لا تكون راشدة أو عندما يرتكب هذا المسؤول أو ذاك أخطاء وخروقات تعرض مصالح الشعب للضرر والأخطار".
وتابع "حرية التظاهر حق كحرية الإعلام والتعبير والأحزاب وغيرها من حريات كفلها الدستور، ومن واجب قوات الأمن حماية المتظاهرين لا تسديد فوهات البنادق ضدهم، كما حدث مرات عديدة في البصرة والديوانية وغيرهما".
وفي افتتاحية بتاريخ 18 من الشهر نفسه، كتب يقول "أمم الناس كأمم النمل، إن حاربتها على السطح فستتكاثر بأعداد أعظم تحت السطح، إن أعداء النظام يستغلون الثغرات لإشاعة العنف والشغب. فهم يعلمون أننا سندحرهم إن كان الشعب معنا، لكنهم سيدحروننا إن خسرنا الشعب بسبب أخطائنا وغفلتنا وغرورنا".
وتابع "وهذه يجب ألا تمنع المسؤول من رؤية أسباب التذمر الواسع وانتشاره بسرعة بين المواطنين، بل بين المسؤولين، نقص الخدمات وتردي شروط العيش.. كثرة العاطلين.. الفساد المالي والإداري.. الإجراءات والقرارات الاعتباطية التي تفاجئ المواطنين بتعقيدات وتكاليف إضافية.. كثرة السيطرات وكثير منها يمارس الجبايات أكثر من الأمن.. صعوبة المعاملات وكثرة الرشاوى.. سيطرة الأحزاب والمحسوبيات على فرص الحياة والحقوق وفي التعيينات والترفيعات.. زيادة من هم تحت خط الفقر.. البطاقة التموينية.. وفقدان الأمن الحياتي بسبب الإرهاب، ولكن أيضاً فقدان الأمن الاجتماعي بسبب أصحاب السطوة الذين يلبس بعضهم الزي العسكري أو الديني أو العشائري.. فلا بد من التعبير، والتظاهر أحد وسائله المشروعة".
عبدالمهدي.. رئيس الحكومة
على مدى عام من عمر حكومته ظل عبدالمهدي منشغلا بخطط ومشاريع يسوق لها على أنها استراتيجية تصحح مسار الأوضاع في العراق، وظل يدير الدولة على أساس التوازن بين مطالب القوى التي أوصلته للحكم، والإقطاعيات السياسية المهيمنة، والمقربين منه.
منحه الشعب وقتا كافيا من أجل تغيير المعادلة، لكنه بدد الوقت في مشاريع وهمية لم تغادر حيزها النظري، وبدأ الشعب يفقد ثقته بشخصه وحكومته على تحقيق حزمة الإصلاحات التي وعد بتنفيذها.
ومنذ احتدام الاحتجاجات المندلعة مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي أدرك عبدالمهدي أن استمرار بقائه في السلطة ليس بسبب قناعة الكتل السياسية أو الشخصيات الداعمة له، وإنما لفاعلية منطق التخادم المصلحي بين الأطراف السياسية والدينية التي جمعتها الرغبة في عدم إقالة أو المطالبة باستقالة حكومته في هذا التوقيت؛ خشية أن تفتح باب عدم استقرار الحكومات المقبلة في حال سقطت الحكومة الحالية بناء على مطالب المحتجين.
قاد عبدالمهدي البلاد بمنطق السياسي الباحث عن المكاسب الآنية، و"الشرطي" المسعور الذي لا يتوانى عن قمع وقتل المحتجين بدم بارد، والمسؤول الخائب الذي كلما واجهه الواقع بغضبه انبرى يكرر ذات العبارة، بأن الحكومة لا تملك عصا سحرية لتصحيح الأخطاء وتحقيق جميع المطالب، باحثا عن مهرب من تحمل المسؤولية، وهو نفسه ذلك الصحفي الذي اتضح أنه كان يبيع وهم العدالة للمظلومين.