العراق والمناخ.. كيف حُرمت دولة المصب من أنهارها؟ (دراسة)
في أقل من 6 عقود، تحول العراق من الوفرة المائية للشح المائي ومخاطر الجفاف، في وضع شديد الغرابة بالنسبة لدولة تصب فيها أنهار عديدة.
وحسب دراسة حديثة لمركز الإمارات للسياسات، فإن الانحسار الكبير للمياه في أنهار العراق الرئيسية، جاء في الغالب نتيجة للإدارة المائية الخاطئة، وسياسات دول الجوار المائية.
وتزداد هذه المشكلة خطورة مع تأثيرات التغير المناخي، والتي تتفاعل مع النتائج المضرة للإدارة البشرية المتعسفة للموارد المائية.
- من البرازيل للأرجنتين.. اليوان يفكك هيمنة الدولار على التجارة اللاتينية
- اقتصاد الدول العربية في 2022.. أكبر من الهند وأصغر من ألمانيا
وبالنتيجة، فإنّ مشكلة المياه تقود بدورها إلى مشكلات اجتماعية واقتصادية وسياسية، وتتحول إلى مشكلة جيوسياسية، ومصدر جديد لعدم الاستقرار والصراعات في العراق والمنطقة.
ومركز الإمارات للسياسات هو مركز تفكير أُسِّس في مدينة أبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة في سبتمبر/أيلول 2013، ليدرس مهدِّدات الدولة الوطنية في المنطقة العربية والخليجية، سواء أكانت نابعة من الداخل أم من التفاعلات الإقليمية والدولية.
جذور المشكلة.. العراق من الاسترخاء إلى الإجهاد
برز التحدي المائي في العراق بصورة واضحة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي متزامناً حينها مع إكمال سد كيبان التركي على نهر الفرات وملئه، بطاقة تخزينية تبلغ 30 مليار متر مكعب.
ومع إكمال سد الطبقة السوري على نهر الفرات أيضاً وملئه، بسعة تخزينية تبلغ 12 مليار متر مكعب، اقترب نهر الفرات حينها من الجفاف، إذ إن معدل تصريفه السنوي إلى العراق عبر التاريخ، وإلى ذلك الحين، كان يبلغ 30 مليار متر مكعب، وقد أُنشِئت عليه سعة تخزينية بلغت 42 مليار متر مكعب، وجرى ملء السدين في نفس السنة، الأمر الذي تسبَّب في هبوط مفاجئ لإيرادات العراق المائية إلى 9 مليارات متر مكعب لسنتين متتاليتين.
وآذَنَ الملءُ المفاجئ للسدين التركي والسوري -دون تنسيق مع الدولة العراقية- بدخول العراق مرحلة جديدة تُنذر بفقدان "السيادة" المائية، إن كان ثمة سيادة على الأنهار العابرة للحدود.
فحتى ذلك التاريخ لم يكن لدى العراق سدود أو أي طاقة تخزينية على الفرات سوى بحيرة الحبانية الصغيرة نسبياً، بطاقة تخزين قصوى تبلغ حوالي 3 مليارات متر مكعب، وكانت عبارة عن منخفض طبيعي، أصبح جزءاً من منظومة "سدة الرمادي" التي افتتحها ملك العراق الراحل فيصل الثاني في منتصف خمسينيات القرن الماضي.
أمّا سد حديثة على الفرات فأُنشئ في منتصف الثمانينيات، أي بعد مضي عقدٍ على إنشاء سدَّي كيبان والطبقة في تركيا وسوريا.
السدود التركية وأزمة المياه في العراق
على مستوى العلاقة المائية مع تركيا فإن أمرها كان يبدو أكثر وضوحاً قياساً بالعلاقة المائية العراقية الإيرانية، لكنها ليست أقل ضرراً.
فتركيا تنفّذ منذ أربعة عقود مشروعاً كبيراً معلناً بعنوان "مشروع جنوب شرق الأناضول"، يتضمن إنشاء سدود كبيرة لحجز المياه واستخدامها في الزراعة، وفي إنتاج الطاقة الكهرومائية.
وقد أنشأت تركيا منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم سلسلة منها، كان آخرها سد اليسو الكبير على نهر دجلة قرب الحدود العراقية.
وكان العراق قد وقَّع مع تركيا في عام 1946 اتفاقية للصداقة وحُسْن الجوار تضمنت ملحقاً خاصاً حول المياه.
وكان الموقف من مياه الرافدين متقدماً وواقعياً ونابعاً بالفعل من حسن الجوار والصداقة، والرغبة في استمرار السلم والتنمية.
لكن من المؤسف أن اتفاقية 1946 بين العراق وتركيا أُهملت، رغم أنها اتفاقية نافذة، نظراً لعدم وجود إطار زمني لنفاذيتها، على عكس اتفاقية 1926 بينهما، التي حددت المدة الزمنية لإنفاذها بعشرة أعوام.
واستمرت تركيا في إنشاء السدود الكبيرة والصغيرة، منها خمسة سدود على نهر الفرات فقط. ومن اللافت أن السعة التخزينية للسدود الخمسة (كيبان، وكرة كايا، وأتاتورك، وكركاميش، وبيريجيك) بلغت أكثر من 90 مليار متر مكعب، أي ثلاثة أضعاف المعدل السنوي لإيرادات الفرات المعتادة.
وخسر العراق نتيجة تلك المشاريع المُبالَغ في أحجامها 50% من إيراداته السنوية من الفرات خلال الأربعين عاماً الأخيرة، ومن المتوقع أن يكون الوضع أسوأ بمرور الزمن.
المشاريع الحكومية العراقية
استجابة للتحدي المائي المتزايد، شرعت الحكومة العراقية في إقامة عدد من المشاريع الإروائية الكبرى على نهري دجلة والفرات، منها على سبيل المثال مشروع الثرثار الذي يربط نهر دجلة بنهر الفرات.
والهدف من هذا المشروع تعزيز تصاريف نهر الفرات في أوقات الحاجة من بحيرة الثرثار التي تتغذى من مياه نهر دجلة الذي لم يكن يخضع لسيطرة دول الجوار.
شرعت الحكومة العراقية أيضاً في تنفيذ مشاريع استصلاح كبرى للأراضي، خاصة في شمال بغداد وغربها، وفي وسط العراق، في محاولة لتأمين سوق الغذاء وتنشيط القطاع الزراعي وفق الرؤية الأيديولوجية لحزب البعث الحاكم، إثر تلكؤ القطاع الزراعي وتراجع إنتاجيته مقارنة بالفترات التي سبقت إعلان "قانون الإصلاح الزراعي" في العهد الجمهوري.
كان هدف الحكومة العراقية على مستوى الشعارات تحقيق التقدم وتنمية القطاع الزراعي، والوصول إلى الاكتفاء الذاتي من الإنتاج، والقضاء على الإقطاع، وما شابه ذلك.
إلا أن مفعول الإجراءات الحكومية كان في الكثير من الأحيان عكسياً، واعتمدت كلياً على العائدات النفطية التي تحوّل إثرها الريف العراقي الذي كان منتجاً، إلى قطاع هامشي يتكئ على الدعم الحكومي.
عامل التغير المناخي
التغير المناخي ظاهرة كونية وليست إقليمية أو وطنية، وبالطبع فإن انعكاساتها عابرة للحدود أيضاً.
وفي بلد كالعراق واجه العديد من الكوارث في العقود الخمسة الأخيرة، لا يمكن تصنيف العوامل التي تؤدي إلى ارتفاع حرارة سطح الأرض، وتقلُّص الغطاء الأخضر، وجفاف الأهوار وانتشار الفقر، والنزوح من القرى والأرياف إلى حواشي المدن، على أساس أنها نابعة عن التأثيرات المناخية، التي يشترك بها مع محيطه الإقليمي والعالم أجمع، فمعظمها نتاج عوامل محلية تتعلق بالتعسف في إدارة الموارد المائية، والسيطرة الشاملة عليها والتحكم في جريانها.
صحيح أن العلاقة بين ما هو محلي أو إقليمي وما هو عالمي هي علاقة تفاعلية يؤثر من خلالها أحدها في الآخر، ولكن الانعكاس المحلي لمظاهر التغيرات في الطقس السائد، التي تفهم خطأ على أنها تغير مناخي تكون أكثر شدةً عندما تكون السياسات والبرامج والمشاريع الوطنية مُتعارِضة مع مبادئ التكيف المعروفة.
فعلى سبيل المثال، تتعارض مشاريع السيطرة الشاملة على الموارد المائية لنهري دجلة والفرات من طريق السدود ومنشآت تحويل مجاري الأنهار، مع فكرة التكيّف مع التغيرات المناخية.
فالسيطرة الشاملة على موارد النهرين المائية والتحكم بها تخضعها تماماً إلى "العامل البشري" في البلدان الأربعة.
وأعمال تصميم وتنفيذ وتشغيل منشآت عملاقة مثل السدود يقوم بها موظفون في العراق وتركيا وسوريا وإيران، وليس للمناخ من يمثله في هذه اللوحة الغامضة والمربكة من المصالح المتعارضة لدول الحوضين الأربعة، التي تقع جميعها ضحية اضطرابات المناخ وتجلياته المتطرفة، سواءً أكانت جفافاً غير مألوف أم فيضانا مفاجئا.
ويخلق التغير المناخي شروطاً غير مألوفة وخطرة في منطقتنا ذات تأثير يهدد الحياة بصورتها المألوفة، وهو إن لم يكن بحد ذاته تهديداً مباشراً ومحسوساً، فإنَّه من دون شك يُضاعف حجم المخاطر المألوفة الأخرى، التي يتسبب بها الإنسان، ويزيد من تعقيداتها، وشدة تأثيرها.
وبما أن العراق، وإلى جانبه إيران وسوريا وتركيا المشتركة بمياه الرافدين، أعضاء في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي (UNFCCC)، فإن مواصلة السياسات المائية السائدة منذ قرون يؤدي إلى فشل تحقيق أهداف التنمية المستدامة، والإخفاق في تحقيق تلك الأهداف يؤدي إلى المزيد من الفقر والنزوح، وانعدام الأمن الغذائي والمائي، وانتهاك حقوق الإنسان، خاصة الفئات الأكثر هشاشة في ظروف عدم الاستقرار.
aXA6IDUyLjE0LjE2Ni4yMjQg
جزيرة ام اند امز