رهان تركيا على سياسة إيرانية تنقذها من ورطتها في سوريا والعراق مسألة ليس مضمونا، فطهران نفسها أمام حالة الغوص في مستنقعات البلدين
مشكلة أنقرة أنها، وبسبب تضارب مصالحها وحساباتها مع أميركا في الملفين السوري والعراقي، وجدت نفسها جنبا إلى جنب مع طهران في أزمة إقليم شمال العراق.. مشكلة أخرى دفعت القيادة السياسية التركية نحو إيران سببها تخلي حليفها المفترض مسعود البارزاني عنها من خلال قرار رفع العلم الكردي في كركوك أولا، والذهاب حتى النهاية وراء الاستفتاء على مشروع حق تقرير المصير والانفصال عن العراق ثانيا.. القلق من احتمال ولادة دولة كردية مستقلة في العراق على الحدود التركية الإيرانية بين أهم الأسباب التي قربت بين أنقرة وطهران أيضا .
وهذا ربما ما دفع لإخراج الأرنب الإيراني من القبعة التركية في العراق في إطار تفاهمات حماية المصالح المتبادلة ومحاولة الجلوس أمام طاولة واحدة مع الروس والأميركان في الملفين.. حسابات الحقل لم تنطبق على حسابات البيدر . إيران لها مشروعها الخاص بها في البلدين ولها مشاكلها المتفاقمة مع واشنطن وهي تعرف أن موسكو ستتخلى عنها إذا حصلت على ما تريد من ضمانات أميركية بالتنسيق معها في سوريا والعراق .
رهان تركي على سياسة إيرانية تنقذها من ورطتها في سوريا والعراق مسألة ليست مضمونة، فطهران نفسها اليوم أمام حالة الغوص في مستنقعات البلدين بسبب ما زرعته هناك في العقد الأخير والانفجار الحقيقي قد يتحول إلى الداخل الإيراني العرقي والديني والمذهبي في أية لحظة .
بعد أيام فقط على التطورات السياسية والميدانية في إقليم شمال العراق تزايد عدد أصوات السياسيين والإعلاميين الأتراك الذين بدؤوا يحذرون من تمدد وحدات الحشد الشعبي على هذا النحو مصحوبا بعمليات التوقيف والتصفيات والاعتداء على الممتلكات والأفراد والتي تكاد تتحول إلى تصفيات عرقية وتغيير ديمقراطي، تكون تركيا بين أول من يدفع ثمنه لاحقا . القلق التركي المتزايد من التقدم العسكري نحو أربيل ومطالب الاقتصاص من القيادة السياسية الكردية في الإقليم هو الدليل على القلق التركي .
التوافق التركي – الإيراني الحالي في شمال العراق سيحمل معه الكثير من التساؤلات حول المرحلة المقبلة وعلى ضوء التطورات السياسية والعسكرية المتلاحقة، وهل سيستمر على ما هو عليه إذا ما شعرت أنقرة أن طهران خدعتها بتسهيل سيطرة حلفائها هي على المناطق التي غادرتها قوات البشمركة باتجاه انتشار ديمغرافي عرقي ومذهبي في كركوك التي اعتبرتها أنقرة لعقود بين مناطق نفوذها العرقي والتاريخي في إطار الدفاع عن تركمان العراق؟
ما الذي ستفعله تركيا مثلا عند مطالبتها طهران بالتنسيق معها باتجاه اتخاذ خطوات مشتركة ضد مخيمات وقواعد حزب العمال الكردستاني في قنديل وسنجار، وعندما ترفض إيران ذلك بهدف تعزيز نفوذها وتمركزها وعلاقاتها مع مثل هذه المجموعات التي تحتاجها دائما لتهديد الأمن القومي التركي؟
حقيقة أخرى تنتظر القيادة السياسية التركية وهي عندما تعلن الإدارة الأميركية إطلاق ساعة الصفر في المواجهة المباشرة مع إيران وتحديدا في سوريا والعراق، إلى جانب من ستقف تركيا خصوصا عندما تلتحق العديد من الدول العربية والإسلامية بالمبادرة الأميركية؟ هذا إذا لم نشأ التوقف مطولا عند التفاهمات الأميركية الروسية والروسية الإسرائيلية على تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة.
يهم إيران إقناع أنقرة بمخاطر الابتعاد عنها عندما تتحرك واشنطن ضد السياسات الإيرانية في سوريا والعراق، لكن تركيا أيضا تعرف أن اصطفافها إلى جانب إيران في مواجهة من هذا النوع ستكون باهظة الثمن على مصالحها ونفوذها الإقليمي إذا لم نرد التوقف مطولا عند ارتداداتها السياسية الداخلية عليها .
أنقرة قد تكون تشعر بالألم بسبب تخلي حليفها الكردي في العراق مسعود البارزاني عنها بهذا الشكل، لكنها تعرف جيدا أنه لا يمكن لها الوثوق مطولا بطهران وأنها عاجلا أم آجلا تحتاج إلى معالجة علاقتها بأربيل إذا ما كانت تريد فعلا حماية مصالحها التجارية والأمنية في المناطق الحدودية التركية العراقية المشتركة .
تقارير إعلامية كثيرة تتحدث عن قرار الحكومة العراقية تسليم حقول نفط كركوك لشركة " برتش بتروليوم " البريطانية . العبادي الذي تلقى اتصالا من وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون يدعوه فيه إلى توسيع نقطة الحوار بين مكونات شعب كركوك هي كذلك رسائل تسهل لتركيا عدم المبالغة في الرهان على السيناريوهات الإيرانية في العراق وشماله التي تتحدث عن موافقة إيرانية على مشروع تركي يفصل الأكراد في العراق عن الأكراد في سوريا، ويسمح لتركيا بالتوغل في تلعفر و كركوك، فهل توافق طهران حقا على تكبيل قدميها في الجغرافية العراقية على هذا النحو وتتخلى عن أوراق استراتيجية من هذا النوع تملكها لمحاصرة النفوذ التركي في المنطقة ؟
إشراف قاسم سليماني على معركة استرداد كركوك من البشمركة ومقولة " التدخل الوقائي " الإيرانية قد تكون رسالة إلى الأتراك حول التوغل الإيراني في التحالفات السياسية العراقية الضيقة واستعداد قيادة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني لإعطائه ما يريد، لكن مشهدا من هذا النوع سيقلق الأتراك الذين خسروا مسعود البارزاني في لعبة التوازنات الكردية العراقية، خصوصا عندما تقول لهم إيران إنها ستشاركهم في تقاسم النفوذ الكردي في الإقليم عبر حليفها هي هذه المرة.. ما الذي ستقوله أنقرة إذا ما حاصرت واشنطن مثلا القيادات الكردية في الإقليم التي تنسق مع طهران وألزمتها بالتخلي عنها ؟
رهان تركي على سياسة إيرانية تنقذها من ورطتها في سوريا والعراق مسألة ليست مضمونة.. إيران نفسها اليوم أمام حالة الغوص في مستنقعات البلدين بسبب ما زرعته هناك في العقد الأخير والانفجار الحقيقي قد يتحول إلى الداخل الإيراني العرقي والديني والمذهبي في أية لحظة .
تواصل القوات العراقية الاتحادية اندفاعها نحو مشارف مدينتي أربيل والسليمانية في إقليم كردستان، متجاوزة حدود الخطة التي أعلن عنها رئيس الوزراء حيدر العبادي وتتضمن إعادة الانتشار في مناطق سيطرت عليها قوات البيشمركة الكردية بعد انسحاب الجيش العراقي منها صيف 2014، إثر اجتياح داعش مساحات واسعة من البلاد.. هل ستسمح القوى الإقليمية والدولية للجيش العراقي ورديفه الحشد الشعبي بالتقدم إلى مشارف أربيل لتحصل إيران على انتصار سياسي واقتصادي استراتيجي من هذا النوع؟ أين الثمن الواجب على إيران دفعه مقابل كل هذا التصعيد والتحدي في سياستها العراقية والسورية؟ هل من مصلحة تركيا الوقوف إلى جانب التمدد والانتشار السياسي والعرقي نحو أربيل بقرار ورغبة إيرانية ومعاقبة الشعب الكردي على هذا النحو؟
دفع استفتاء الانفصال الذي أجراه إقليم شمال العراق نهاية شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، كلاً من أنقرة وبغداد وطهران إلى تشكيل آلية ثلاثية للرد والتعامل مع تفاعلات المسألة .
الجديد هذه المرة والذي ستأخذه أنقرة بعين الاعتبار ما رددته مصادر إعلامية منذ يومين أن واشنطن عرضت في قمة الرياض السعودية الأميركية العراقية مقترحا لتشكيل فريق عمل يضم ممثلين عن الدول الثلاث، يهدف إلى " ترسيخ الاستقرار واحتواء النفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة".. لو لم تكن بغداد جاهزة للدخول في نقاش من هذا النوع لما كانت اختارت السعودية للاجتماع بوزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون أمام طاولة ثلاثية وسط هذه الظروف الإقليمية الحساسة في المنطقة وبمشاركة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز ورئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي .
كيف سيكون الموقف التركي أيضا عندما ترى القيادات السياسية التركية أن حكومة بغداد نفسها تتحسب إلى احتمالات خط الرجعة في علاقاتها مع طهران واحتمالات مغادرة العبادي لسفينة الإبحار الإيرانية قبل غيره ؟ مؤشرات نتائج زيارة الوفد السياسي والعسكري العراقي الرفيع إلى الرياض لا بد أن تساعد أنقرة على مراجعة علاقاتها ورهانها على إيران في الملف العراقي الذي لا يضمن لها على المدى البعيد الكثير من الفرص والحظوظ .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة