لا يزال شبح داعش مسيطراً على العراق بل على أذهان الناس، هذه الكائنات التي تختفي وتظهر كما تتطلبها الأجندات السياسية
ظهر داعش كرد فعل لما اعتمده الاحتلال الأمريكي لمؤسسة دينية متواطئة وفاسدة ومتخلفة قاعدة محلية له. وفي المقابل لم يكن ظهور داعش إلا ردة فعل إزاء هذه الطغمة. والكارثة أنهما يقتسمان الطبخة ذاتها في تبرير وجود كل واحد منهما على الساحة العراقية. جماعة سيطرت على الحكم وجماعة أخرى تسعى إلى الحكم. والحق يقال إن هذه المؤسسة الدينية فعلت ما لم يفعله أحدٌ طوال تاريخ الإسلام. أين ذهب علمانيو العراق الذين غضّت أمريكا الطرف عنهم ولم تمكنهم حتى تسلق درجة واحدة من سلم الحكم؟ ومن هنا نشأ الانهيار في الدولة العراقية التي تأسست في 1921 وتم تفكيكها في 2003.
بيوض الثعابين يمكن أن تفقس في ظروف العراق التي تشجع على بروز أي ظاهرة غريبة وغير مألوفة ما دام 37 مليون عراقي يعيشون القهر والتهجير والقتل وانفجارات أسلحة الحشد الشعبي دون أن يروا في الأفق بارقة أمل، وهي لا تتحقق إلا بالعدالة والتنمية والسلام...
لا يزال شبح داعش مسيطراً على العراق بل على أذهان الناس، هذه الكائنات التي تختفي وتظهر كما تتطلبها الأجندات السياسية. يبدو أن لا حلاً سياسياً يمكنه معالجة الأزمة العراقية. من جهة، تظهر أشباح داعش ومن جهة أخرى يقوي الحشد الشعبي ركائزه ليتحول إلى مؤسسة يطالب البعض بإحلالها مكان الجيش بعد تفكيكه ثانية، رغم أنه ليس بالجيش الأصلي بل تم تأسيسه على نظم طائفية ورغم ذلك لا ثقة فيه. لا تزال النظرة الضبابية تسيطر على المحافظات السنية التي تم "تحريرها" من داعش بعد إبادتها بشرياً وعمرانياً. المهجرون يفضلون البقاء في خيامهم وسط وحول الشتاء وحر الصيف على العودة إلى أطلال مدنهم المخربة في ظل عملية سياسية تثبت فشلها يوماً بعد آخر. هناك 5.5 مليون عراقي، عاد منهم نحو 3.1 مليون مواطن إلى منازلهم، بينما ظلّ الباقي في مناطق مختلفة داخل العراق، وفقًا لإحصائيات وزارة الهجرة العراقية.
ليس من الصعب أن تظهر أشباح داعش ثانية ما دامت التربة صالحة لذلك، وهي لم تختلف عمّا كانت عليه. لم يعد أحد يسأل من أين يأتي الدعم لداعش! والأهم من ذلك أن العراق لا يزال يواجه أشباح داعش ولا تزال ألغامه وعبواته مزروعة تحت الأرض. يحتاج العراق إلى مساعدة تقنية ودولية بهدف اكتشاف هذه الألغام والسيطرة عليها. مع اقترب الذكرى السنوية الأولى لانتصار القوات العراقية على داعش، يسعى فلول التنظيم إلى استغلال الثغرات الأمنية في بعض المناطق التي لا تبعد كثيراً عن بغداد إذ اتخذ داعش تكتيكاً عسكرياً جديداً بعد هزيمته أي ما يسمى حرب العصابات الهجينة وتكتيكات المقاتل الشبح، مبيناً أن وظيفة تلك المفارز الراجلة هي البحث عن الفوضى في مناطق ذات تعدد طائفي أو قومي أو البحث عن المناطق التي تعاني من الهشاشة الأمنية. وبدأ التنظيم كما يرى الخبراء بالاعتماد على التمويل الذاتي من السرقات وعمليات الخطف والابتزاز والاستثمارات من بيع النفط وغسيل الأموال.
هنا لا نتحدث عن أشباح داعش التي طُمرت في أرض الموصل وأشباحها التي قد تظهر بل عن أشباحهم الحقيقية إذ لطالما اعتمد هذا التنظيم على خلاياه النائمة. فبعض الأصوات ظهرت من الحشد الشعبي لتؤكد أن الولايات المتحدة تعمل على تدريب قوة "أشباح الصحراء" في قاعدة عين الأسد وقاعدة الحبانية، بينما التزمت الحكومة العراقية الصمت. ومنذ بداية العام، قامت الولايات المتحدة بتدريب ألف مقاتل من فلول داعش والإرهابيين والصحوات، وهي أقرب إلى أوضاع صحوات العراق التي شكَّلتها في ذروة الأزمة في 2007.
ويتساءل البعض: لماذا تقدم الولايات المتحدة على ذلك؟
تسعى الولايات المتحدة إلى استخدام هؤلاء المقاتلين من أجل مقاومة الإرهابيين لأنها تعدها "القوة الضاربة للأمريكيين"، وبديلاً عن الجيش الأمريكي في خط المواجهة المباشرة مع عناصر تنظيم داعش. وقد سبق للأمريكيين أن استخدموا الأسلوب ذاته في تشكيل الرايات البيضاء في مناطق صلاح الدين وأطراف الموصل ومناطق شمالية أخرى. إنها جزء من السيناريوهات الأمريكية التي لا يمكن التنبؤ بها.
الأهم في كل ذلك أن شهر العسل قد انتهى بين القوات الأمريكية الموجودة في العراق وفصائل الحشد الشعبي خاصة مع اشتداد التوتر مع إيران وتهديد الأخيرة بضرب المصالح الأمريكية. ولا تزال أشباح داعش تثير المخاوف، رغم الانتصار العسكري عليها، كما أن هذا التنظيم المقيت تحول إلى خلافة افتراضية عبر شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وانتقل للعيش بطريقة سرية.. ولا يمكن أن تتحقق نهاية هذا التنظيم إلا بانتهاء ظروف الطائفية والفساد وانعدام الخدمات التي أوجدتها. وهذه الظروف لا تزال قائمة، وهي كفيلة بإنتاج هذا التنظيم من جديد من خلال قدرته على استثمار هذه الظروف لكي يخرج رأسه من سراديب الظلام. ولعله لا يزال يعثر على التربة الصالحة لظهوره بعد انسحاب الولايات المتحدة وضعف القوات الأمنية العراقية ومشاركة التنظيم المتواصلة في أعمال إجرامية محلية وقدرته على استغلال مظالم العراقيين السنة ضد الحكومة ذات الأغلبية الشيعية.
بيوض الثعابين يمكن أن تفقس في ظروف العراق التي تشجع على بروز أي ظاهرة غريبة وغير مألوفة ما دام 37 مليون عراقي يعيشون القهر والتهجير والقتل وانفجارات أسلحة الحشد الشعبي، دون أن يروا في الأفق بارقة أمل، وهي لا تتحقق إلا بالعدالة والتنمية والسلام...
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة