الأموال التي صُرفت على الدعاية للانتخابات باهظة، لدرجة أنها تكفي لبناء مستشفيات ومدارس عديدة.
صخب الانتخابات يتصاعد في أنحاء العراق، والجميع يحبس الأنفاس لقدوم تاريخ الثاني عشر من شهر مايو/ أيار المقبل. البرلمانيون الذين كانوا في سبات يستفيقون اليوم على تقديم صورهم الوردية إلى الناخبين طمعاً في الأصوات. ومواقع التواصل الاجتماعي تنشر صوراً للأقلام التي يوقّع بها الناخبون والقابلة للحذف والتزوير، والبعض ينصح بأخذ أقلامهم الخاصة، فيما تتفرج هيئة النزاهة على سجلات المرشحين، الذين يرفضون أن يقدموا لائحة بممتلكاتهم، وأكثرها أرصدة في البنوك الأجنبية.
يتنافس في هذه الانتخابات التشريعية عامة نحو 320 حزباً سياسياً وائتلافاً وقائمةً انتخابية.. في النظام السابق لم يكن سوى حزب واحد، وهذا وحده يصيب العراقيين بالدوار، وهذه الأحزاب والتكتلات تسعى لانتخاب 329 نائباً جديداً في برلمان البلاد، لكن خيوط اللعبة السياسية تُحاك من وراء الكواليس المظلمة القائمة على التحالفات بين القوائم الانتخابية والمعركة حامية الوطيس، بين القرش والأسماك الصغيرة.
إيران لن تقف مكتوفة الأيدي في الانتخابات المقبلة، فقد عملت على نسج خيوط لعبتها مع زعماء سياسيين ومرشحين من أجل رسم خريطة المحاصصة الطائفية المعمول بها حالياً لضمان تمددها الواسع. يدعم ذلك الانقسامات الطائفية والعرقية، التي أصبحت البيئة الملائمة للحفاظ على الوجود الإيراني في العراق
ولعل من المشاهد المؤلمة أن ترى صورة أحد المرشحين الأقوياء مثل هادي العامري، قائد منظمة بدر وقيادة كتائب الحشد الشعبي، المليشيا الضخمة، تطل على ساحة مليئة بالمخلفات وأكياس القمامة، وأخرى للوائح منصوبة في أركان الشوارع، التي من شأنها أن تخرّب المنظر العام، مما حدا بالمواطنين إلى رفعها من أماكنها وإلقائها في مكب النفايات، شاركت معهم بعض البلديات كما هو الحال في مدينة الحلة، بابل. وهناك مَنْ يقلع هذه اللوائح انتقاماً أو كرهاً لهذا المرشح أو ذاك. رغم قيام الأمانة العامة للانتخابات بنشر بيانات عن ضوابط تنظيم الحملات الإعلانية الخاصة بطريقة صارمة، لمنع تشويه جمالية المدينة، خصوصاً الأماكن التاريخية والتراثية والدينية، ولصق الدعاية وصور المرشحين على الأبنية التاريخية والدينية، والجسور، وواجهات المباني الحكومية، والمدارس، إضافة إلى المستشفيات. فالأحزاب والتكتلات تقاتل من أجل الترويج عن برامجها المكرورة التي لم يتحقق منها أي شيء، مما حدا بالمرجعية الشيعية، وعلى رأسها علي السيستاني إلى إطلاق عبارته الشهيرة: "المُجّرب لا يٌجرّب"، التي ذهبت مثلاً بين أوساط العراقيين الغاضبين.
مما لا شك فيه أن الإنفاق الذي يجري صرفه على الدعاية للانتخابات باهظة، لدرجة أنها تكفي لبناء مستشفيات ومدارس عديدة، كما يعبر عن ذلك المواطنون على شاشات التليفزيون، ومن ضمن هذا الإنفاق الرشى التي تُقدم إلى المواطنين لأجل استمالتهم إلى هذه القائمة أو تلك، مثل توزيع البطانيات وكروت الهواتف وغيرها. المرشحون عن القوائم الانتخابية يُصابون بهيستريا في الأيام التي تسبق الانتخابات، وكل واحد منهم يبحث له عن مخرج، لكي يقتنص أصواته من الضحايا الذي غاب عنهم 8 أعوام، أي منذ الانتخابات السابقة. ومنهم من يبحث عن ثغرة يدخل منها، وهي نقص الخدمات في المناطق الفقيرة، كدعاية انتخابية، تصل إلى درجة قيام بعض المرشحين عمداً إلى تزفيت الشوارع وتوزيع سلال غذائية، وغيرها من الأساليب، من أجل كسب ود الناخب الذي يتذكره السياسيون الآن بعد أن نسوه سنوات طويلة.
هذه الانتخابات تشبه الكوميديا السوداء، لأنه على مدى 15 عاماً لم يُبلط شارع واحد، على حد قول المثل العراقي، إذ تجري الانتخابات تحت أوضاع في غاية السوء، ففي محافظة البصرة التي تصدر 3 آلاف و500 برميل نفط يومياً، يعيش 30 % من سكانها تحت مستوى خط الفقر، أي بواقع دولار واحد يومياً، وهؤلاء طُعم سهل في مصيدة المرشحين. وهنا تتم أكبر عملية بيع وشراء للأصوات، وثمن الصوت يتراوح من 50 إلى 100 دولار، أي أنها عملية شراء الأصوات، وغالبية هؤلاء المرشحين اغتنوا من جراء عدم تقديم الخدمات إلى هؤلاء المواطنين الذين سُرقت أموالهم وحقوقهم من خلال "الكومشنات"، وتحويل أموال المشاريع إلى البنوك الأجنبية، خاصة أن أغلب هؤلاء النواب يحملون الجوازات الأجنبية التي حصلوا عليها أثناء كفاحهم ضد الديكتاتورية في الفنادق ذات الـ5 نجوم، هؤلاء الذين كانوا يتعايشون على المساعدات الخيرية من أموال دافعي الضرائب من مواطني الدول التي لجأوا إليها، لكنهم تناسوا ذلك، وأصبح العراق مجرد مزرعة تدر عليهم الثمار.
وفي ظل هذه الظروف، ليست الانتخابات بمنأى عن الضغوطات الإقليمية والدولية والتحالفات المؤقتة والموسمية، وأول هذه التأثيرات هي إيران، بكل ما تحمله من ثقل سياسي واجتماعي على زعماء هذه الانتخابات والمرشحين الذين يبدون ولاءهم علانية لها. ورغم ذلك تدعي معظم القوائم الانتخابية بأنها ترفض الضغوطات الخارجية وبمنأى عنها، وهي ذات توجه عراقي صرف. نائب الرئيس العراقي زعيم ائتلاف الوطنية، إياد علاوي، أشار إلى هذه الضغوطات، وهو يدعي العلمانية، ويرفض الإملاءات الخارجية. وقد سبق وأن صُودرت الأصوات التي حصل عليها علاوي، وهي الأكثرية في انتخابات 2010 التي قاد فيها علاوي قائمة العراقية، لكن الظروف شاءت أن يتصدر المشهد نوري المالكي لما يتمتع به من دعم كبير من إيران المتحالفة معه. وفي حقيقة الأمر، فإن هناك نوعاً من الاستنفار بين القوائم الشيعية - إن صح التعبير - من أجل الوقوف في وجه القوى المدنية أو العلمانية المستنيرة التي تكافح من أجل الفوز بالانتخابات ورسم خريطة مستقبل العراق السياسي. ولكن يصعب على هذه القوى أن تقف في وجه 500 مرشح في الانتخابات البرلمانية العراقية من المليشيات أو الشخصيات السياسية المقربة من النظام الإيراني، وهذا ما يُعقد المشهد السياسي في العراق. بينما المحافظات السنية مثل الأنبار وصلاح الدين ونينوي وديالي تشهد غلياناً لا مثيل له، وزعماء القوائم يتذكرون سيناريو عام 2010 باختيار مرشح حزب الدعوة الإسلامية نوري المالكي لرئاسة الحكومة، وخشيتهم من أن يتكرر هذا السيناريو ثانية، وهو ما ترجح إليه الكفة. ولعل الدليل على ذلك قيام بعض الأشخاص بتمزيق صور الدعايات الانتخابية لمرشحي ائتلاف الوطنية وزعيمها إياد علاوي في الوقت الحاضر، وكأن التاريخ يعيد نفسه. إيران لن تقف مكتوفة الأيدي في الانتخابات المقبلة، فقد عملت على نسج خيوط لعبتها مع زعماء سياسيين ومرشحين من أجل رسم خريطة المحاصصة الطائفية المعمول بها حالياً لضمان تمددها الواسع. يدعم ذلك الانقسامات الطائفية والعرقية، التي أصبحت البيئة الملائمة للحفاظ على الوجود الإيراني في العراق.
مما لا شك فيه أن هناك قوى تتبنى المشروع الوطني، ونبذ الاصطفاف المذهبي والطائفي، ومنع التدخلات الخارجية من التأثير على القوائم الانتخابية، ولكن هل تتمكن هذه القوى من أن تقف في وجه التحالفات الكبرى؟ وأكبر دليل على ذلك، تصريحات مساعد المرشد الأعلى للخامنئي، علي أكبر ولايتي، مستشار الشؤون الدولية، الذي صرّح بكل صلافة وعدم لياقة بأن إيران لن تسمح لليبراليين والشيوعيين بالحكم في العراق، وهو تصريح واضح للتدخل في شؤون العراق الداخلية.
إن الانتخابات العراقية هي حقاً معركة القرش والأسماك الصغيرة، ففي الوقت الذي وعد فيه رئيس الوزراء العراقي الحالي حيدر العبادي بأنه يحارب الفساد، قام بالتحالف مع الفاسدين من أجل ضمان نجاح كتلته في الانتخابات، وهذه القوى الخمس هي: النصر برئاسة العبادي، والفتح برئاسة هادي العامري، ودولة القانون برئاسة نوري المالكي، والحكمة برئاسة عمار الحكيم، وكتلة الصدر وهي بعيدة عن إيران منذ عام 2012.
أما التأثيرات الأمريكية في الانتخابات العراقية فهي تتركز في ضمان الفائز الموافقة على خطة تدريبية أمريكية طويلة المدى للقوات العراقية، وهو ما يعني ضمان الوجود الأمريكي في العراق.
ولعلنا نتساءل: "ما مصير حركات الاحتجاج الشعبية التي تطالب بالإصلاح ومكافحة الفساد وترسيخ فكرة الدولة المدنية؟".
كلها تذهب أدراج الرياح أمام هذه التحالفات الكبيرة التي ستقلب معادلة الانتخابات رأساً على عقب، وأنها لن تكون بمعزل عن التأثيرات الخارجية الدولية والإقليمية رغم الدعوات الخجولة التي تنادي بإقامة انتخابات حرة ونزيهة والحيلولة دون تنظيم النتيجة، لكن الواقع الفعلي يشير إلى غير ذلك.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة