أعرف أن ثمة استغرابا سيدور حول كلمة "ماعش" فداعش يمتلك شهرة إرهابية وصيتا في القتل، أما "ماعش" فتلك حكاية أخرى.
في حوار تلفزيوني على قناة الحدث التي أتشرف أن أكون واحداً من مذيعيها، استخدم ذلك المصطلح في نقاش مع "ديفيد بولك" المستشار السابق لوزارة الخارجية الأمريكية والأستاذ أحمد الأبيض وهو محلل سياسي عراقي. وكنا نتابع لحظة بلحظة تلك الصواريخ التي أطلقت على مقر السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء ببغداد. جاءت التساؤلات طالما أن الأمريكيين يعرفون أن تلك الصواريخ تأتي من المليشيات الولائية التي تمثل الأذرع الإيرانية في العراق، فلماذا لا يقودون حملة منظمة لمحاربتها، كما قادوا تحالفا دولياً كبيراً ومنظما في 2014 لمحاربة "داعش"؟
هنا ذكر المصطلح، حيث تختصر كلمة "ماعش" عبارة المليشيات الشيعية الموالية لإيران، أمريكا تأذت وتضررت بشكل مباشر من "ماعش" أكثر ما تضررت من "داعش"، ورغم ذلك ثمة تهاون وتردد وضعف في تعاملها مع "ماعش" المليشيات الشيعية الولائية.
منذ انسحاب ترامب من الاتفاق الإيراني النووي عام 2018، أعلنت تلك المليشيات حربها على الوجود الأمريكي في العراق، تارة باستهداف مقر السفارة بصواريخ الكاتيوشا، وتارة بقتل أمريكيين في القواعد المنتشرة في العراق، وتارة باستهداف الموالين لأمريكا. كانت ذروة الصراع بين أمريكا وتلك المليشيات هي مقتل قاسم سليماني وأبومهدي المهندس في يناير من هذه السنة، تلك كانت ضربة موجعة لتلك المليشيات ولإيران أيضا، واعتبر وقتها صيداً ثميناً أعلن عنه "ترامب صراحة".
دخلت تلك المليشيات في حرب معلنة بعد أيام من مقتل سليماني، باستهداف قاعدة عين الأسد، وبقية القواعد الأخرى حتى تم اقتحام المنطقة الخضراء ومحاصرة السفارة الأمريكية في بغداد. حذر الأمريكيون من أنه إذا تم اقتحام السفارة فسيتم نسف الموجودين في المكان، مع بعض التدخلات انتهى الحصار ولم يحدث شيء واستمر الصراع .
قادت تلك المليشيات حملة داخل البرلمان العراقي بالتصويت على قرار يطالب بخروج الأمريكيين من العراق، وعرف الجميع أن لتلك المليشيات أذرعا برلمانية داخل البرلمان. تلك كارثة كبرى يعاني منها العراق وهي شرعنة المليشيات، وهذا فرق جوهري بين خطورة "ماعش" وخطورة "داعش"، فداعش الكل معترف بإرهابه، أما "ماعش" فثمة قول آخر يشرعنها ويدافع عنها ويطالب ببقائها.
الأزمة في "ماعش" ليست شرعنتها البرلمانية فقط، وإنما شرعنتها المرجعية والفقهية في آن واحد، وهنا نعود إلى يونيو 2014 وهو تاريخ فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها المرجع الأعلى "علي السيستاني" في العراق بأن محاربة داعش واجبة على الجميع. بعدها تم تأسيس الحشد الشعبي وأقر له قانون سمي قانون هيئة الحشد الشعبي في 2016.
النقطة التي غابت عنا جميعا وقتها هي الاعتقاد بأن الحشد تم تأسيسه في ذلك التوقيت فقط، لكن الحقيقة المهمة والفارقة والخطيرة أن الحشد هو تجميع لمليشيات وفصائل مقاتلة كانت موجودة بالفعل، يقال إنها وصلت إلى 67 مليشيا مسلحة كانت تمارس إرهابها في السر، وفتوى المرجعية بالإضافة إلى قانون الحشد، جعلا هذه المليشيات تخرج للعلن وتمارس إرهابها وهي متحصنة بالفتوى وبالقانون .
تلك نقلة خطيرة في أزمة الصراع في العراق، لأن الحشد الذي انضوى تحت مظلة القوات التي حاربت داعش، اكتسب بعدا شعبياً مجتمعيا شيعياً بطوليا، خصوصاً بعد الانتصارات التي حققها التحالف الدولي ومعه ماعش ضد داعش .
باتت تلك المليشيات تتحرك في العراق وهي محمية مجتمعيا وبرلمانيا وقانونيا، أهمها وأقدمها "منظمة بدر، عصائب أهل الحق، سرايا الخراساني، النجباء، سرايا حزب الله العراق"، تلك مليشيات ولائية أي أنها تمثل الذراع العسكرية لولاية الفقيه الخمينية، تأخذ تمويلها من إيران وتأتمر بأمرها.
وهناك الفصائل المرجعية مثل "لواء العباس، لواء علي الأكبر" وغيرهما، تلك تتبع للمرجعية الدينية للسيستاني في العراق. الآن هناك صراع كبير بين تلك المليشيات الولائية من جهة والمرجعية من جهة أخرى، بالأمس القريب تم استهداف معسكر تابع للواء العباس في صلاح الدين من قبل المليشيات الولائية، لأنهم لم ينسوا أن قائد ذلك الفصيل "ميثم الزيدي" هو صاحب فكرة الفصل بين ما هو ولائي وبين ما هو مرجعي.
إذا "ماعش" التي سببت الضرر الأكبر لأمريكا قوبلت بصمت وبيد مرعوشة من قبلها، وداعش الذي لم يسبب ضررا كبيرا لأمريكا رغم أنه دمر المنطقة العربية وأحدث شرخا كبيراً، ووجه بحزم وحسم من قبل التحالف الدولي ومعه أمريكا.
يقول ديفيد بولك بعد سؤالي له، "لا تنتظروا أن تقوم أمريكا بأي رد تجاه ماعش الآن، لأنها لن تتورط أكثر في المستنقع العراقي، وهكذا لن ترد أمريكا على استهداف سفارتها لأن مهمة حماية السفارة منوطة بالحكومة العراقية التي دورها حماية البعثات الدبلوماسية".
الأمريكيون اليوم يتناسون أن أنظمتهم السابقة هي التي صنعت المستنقع العراقي وأوجدت فيه كل الأفاعي، منذ 2003 وما بعدها.
إذا كان داعش قد تغول في 2014 فما كان له ذلك لولا ما فعله أوباما عبر سياسات مرتبكة وغير مدروسة في العراق، حين أعلن في أغسطس 2010 نهاية المهمات القتالية للقوات الأمريكية وتقليل عدد القوات، حيث أعاد في قرار واحد ما يقرب من 90 ألف جندي أمريكي كانوا موجودين في العراق، وأبقى على 50 ألفا فقط .
مع مرور الوقت فوجئنا أنهم 3000 جندي حين أعلن من جاء بعده أقصد "ترامب" تقليلا آخر للقوات ليصبحوا 2500 جندي .هنا لعب الإيرانيون عبر مليشياتهم "ماعش" على سياسة ملء الفراغ تبعا للقاعدة التي تقول "الفراغ لا يترك فارغا يملأ نفسه بنفسه". هم ملؤوا الفراغ، فعمل "قاسم سليماني" على إعادة توسعة وتقوية "ماعش" بشكل كبير حتى فوجئنا جميعا أن "ماعش" التهمت العراق بكامله. ولولا الانتفاضة الشعبية التي اندلعت العام الماضي ربما ضاع العراق.
المخرج الذي يمكن أن تلعبه أمريكا الآن في العراق، قد لا يكون حلا عسكريا تقوده هي، لأن الأمر معقد جداً وتوتير المنطقة هو مطلب وهدف إيراني يصب بالنهاية في مصلحتها، لأنه سيعطل هذا الحراك الذي يشهده العراق الآن .
لذا الحل هو إحالة الملف إلى مجلس الأمن واستصدار قرار دولي ينص على ضرورة العمل على تفكيك المليشيات الإيرانية في العراق، وبناء الجيش العراقي الوطني، وذلك عبر تكوين قوة سلام دولية تقوم وهي محمية بالقوات المسلحة العراقية بتنفيذ هذا المخطط .
وقتها يمكن أن نكون أمام مخرج حقيقي لعراق موجود بدون "ماعش" وبدون "داعش" أيضا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة