إن الفرد المنصهر في الجماعة لا يعدّ نفسه ولا الآخرين كائنات بشرية فعلية.
ألقت مجزرة مسجد الروضة بالعريش، شمال سيناء، بظلالها على اجتماع مجلس وزراء دفاع التحالف الإسلامي العسكري في الرياض، التي غدت عاصمة الحرب على الإرهاب بالعالم..
أكد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في كلمته على أمرين رئيسيين: التنسيق بين الدول الإحدى والأربعين المنضوية في التحالف، والأمر الآخر حماية الإسلام من التشويه الذي يريد الراديكاليون شوب الإسلام به، وكان أساس القمة البحث في حوكمة العمل العسكري والاستخباري بين الدول، بغية ضرب الإرهاب و«ملاحقته في كل مكان» كما عبّر الأمير، حتى إنهاء واجتثاث هذا الداء من كل أنحاء العالم.
إن الفتاوى الإرهابية الدموية لا تزال طليقة، والمفتون المتطرفون لهم منابرهم في الإعلام ومنصاته المختلفة، من هنا تأتي أهمية تجريم «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين»، وهو اتحاد يمثل كل مواصفات الكيان الإرهابي بامتياز، وقد وعى بعض العقلاء دوره الخطير، فانسحبوا مبكّراً.
والحق أن هذه القمة جاءت مميزة بنتائجها، فالمجلس الذي تأسس أواخر عام 2015 بدأت مروحة عمله بشكلٍ رسمي، وعلى أسس عملية وتنظيمية، سنرى بوادرها في الأيام القادمة.
لقد ضم الإرهاب نفسه ليكون من أعتى الأمراض التي تعاني منها المجتمعات، بالإضافة إلى أخطار الفقر والمجاعات والأمراض والأوبئة، ثمة خطر أساسي هو «الإرهاب» لا يقل عن تلك الكوارث التي قد تحلّ وتصيب أي مجتمع.
ولكن بعد طول الحديث حول الإرهاب الدموي منذ نصف قرن، لا تزال المقاربات الفكرية والثقافية والتعليمية لتحصين المجتمعات منه شحيحة، وذلك بسبب عدم تحوّل العمل الثقافي والتعليمي إلى جهد مؤسسي حكومي، لقد كانت الحكومات طوال تلك السنين تحارب الإرهاب من خلال الأعمال الأمنية والاستخبارية فقط، بينما وهي تجتث خليّة ثمة أخرى تتشكل براعمها في المدارس، والمحاضن اللاصفية، والأوكار التلقينية، وكل تلك المخابئ لا يتم اجتياحها؛ بل إن المؤسسة العسكرية التي تقضي على الخلايا الإرهابية، هي نفسها التي تحرس محاضن تفريخ أمثالها في مؤسسات حكومية تعليمية وتربوية ودينية. هذه حقيقة يجب مواجهتها بشجاعة، حتى لا نلدغ من الجحر نفسه مراراً، ولئلا تتكرر مجزرة المغدورين الثلاثمائة في مسجد الروضة، إنها جريمة كارثية بكل المقاييس تجعل العمل القديم حول مكافحة الإرهاب على طاولة السؤال.
إن الفتاوى الإرهابية الدموية لا تزال طليقة، والمفتون المتطرفون لهم منابرهم في الإعلام ومنصاته المختلفة، من هنا تأتي أهمية تجريم «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين»، وهو اتحاد يمثل كل مواصفات الكيان الإرهابي بامتياز، وقد وعى بعض العقلاء دوره الخطير، فانسحبوا مبكّراً، مثل الشيخ عبد الله بن بيه وآخرين، ولكن دوره المشبوه بقي فاعلاً، وقد مثل هذا الاتحاد مفرخة للفتاوى الكارثية التي تؤسس لقتل المدنيين العزل.
وحين سُئل زعيم هذا الاتحاد يوسف القرضاوي، في برنامجٍ تلفزيوني، عن العمليات الانتحارية، قال: «إن هذا يعود إلى الجماعة لا إلى الفرد»؛ مشيراً بأن الجماعة هي التي تحدد للفرد داخلها المصلحة من العملية، ملمحاً إلى جدوى المكان والزمان، فهل يمكن لمثل هذه الفتاوى أن تبقى سائبة بلا ردع أو وأد؟
في عام 1951، طرح مفكر مرموق اسمه إريك هوفر، كتابه المشهور: «المؤمن الصادق»، وقبل ظهور الجماعات الإسلامية المسلحة كان يقارب نفسية المتطرف المؤمن بعمق بأفكاره حد الموت، وفيها يعالج قول القرضاوي ذاته حول الفرد والجماعة، حين يقول: «لكي تهيئ شخصاً ما للتضحية بالنفس، فلا بدّ من سلخه عن هويته الذاتية وعن تميزه. يجب أن يكف عن كونه جورج، أو هانس، أو إيفان، أو تادوا، أي يجب أن يكف عن الشعور بأنه خلية بشرية مستقلة لها وجود يحده المولد والوفاة. وأكثر الطرق فاعلية في الوصول إلى هذا الهدف هو صهر الفرد كلية في الجسم الجماعي.
إن الفرد المنصهر في الجماعة لا يعدّ نفسه ولا الآخرين كائنات بشرية فعلية. عندما تسأله من هو؟ فإن جوابه التلقائي هو أنه ألماني أو روسي أو ياباني أو مسيحي أو مسلم، أو عضو في قبيلة معينة أو عائلة ما. ليس لهذا الفرد من معنى أو هدف أو مصير إلا من خلال الجسم الجماعي، وما دام هذا الجسم الجماعي حياً فلا يمكن للفرد أن يموت. الحياة عند الشخص الذي لا ينتمي إلى مجموعة هي همّه الأول».
هكذا يذوب الفرد في جماعته ليغدو ترساً في آلة، يتحرك ضمن المجال والخط الذي يرسم له، حتى وإن اضطر إلى الانتحار بين الجموع. والمتطرف لديه معضلة كبيرة تتمثل بادعائه الاعتدال، ومن يستمع إلى محاضرة «القرآن والسيف معاً» وهي محاضرة حول أحكام «الجهاد» لزعيم تنظيم القاعدة في جزيرة العرب يوسف العييري، يرى كل التحليلات النفسية التي أوردها هوفر ماثلة أمامه، فهو يعتبر مثلاً أن: «قدرة المؤمن الصادق على أن (يغمض عينيه ويسدّ أذنيه) عن الحقائق التي لا تستحق أن ترى أو تسمع، هي التي توجد حماسه الدائم وثباته على موقفه، لا يمكن للمؤمن الصادق أن يخاف الخطر، أو يخشى العقبات، أو يرتبك أمام المتناقضات؛ لأنه يرفض الاعتراف بوجود هذه الأشياء. إن قوة الإيمان كما لاحظ بيرجسون: (لا تتجلى في القدرة على تحريك الجبال، ولكن في القدرة على عدم رؤيتها وهي تتحرك)».
إن الرؤية التي يطرحها التحالف الإسلامي العسكري للحرب على الإرهاب تبعث على التفاؤل، في وقت عجزنا فيه عن دحر الإرهاب فكرياً ونظرياً، لقد مللنا من مشاهد الدماء والأشلاء، وأرهقتنا التحليلات والتوصيفات، وآن أوان الحكومات لتجتث الإرهاب وتمشط المنابر والمنصات، وتهاجم الأوكار والمخابئ، وتباغت التنظيمات والخلايا، وتعيد كل هيكل التعليم من الابتدائي إلى الدراسات العليا. هذا جهد كبير ليس صعباً على الدول الإسلامية الإحدى والأربعين. حين يحدث كل ذلك نستطيع أن نبدأ بحالٍ من التفاؤل ألا تتكرر مجازر الأبرياء الذين سقطوا غدراً في كل أصقاع هذه الأرض. إننا بحاجة إلى حرب «كاملة» على الإرهاب، بدلاً من الحروب الجزئية التفصيلية.
يكتب بودل دوموشيل في كتابه المهم «التضحية غير المجدية»: «إن العنف بمعنى ما يصل بسرعة مفرطة، ليستطيع الاندماج مع النزاعات والتنافسات التي تحرك الأفراد، لأجل ذلك فإنه يصد بقدر ما هو يجذب، ويثير القلق بقدر ما يسحر المشاعر».
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة