خرجت الحكومة الإسرائيلية من مواجهة مخيم جنين بخسائر حقيقية تتجاوز ما يمكن التأكيد عليه في المنظور الإسرائيلي بأنها تعاملت مع مخاطر المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية.
وكون عناصرها لا تزال في نابلس والقدس، وغيرها من المدن الفلسطينية، فإن ذلك يشير إلى أن الأمر يتجاوز الإنجازات العسكرية، ويدخل في إطار من الحسابات السياسية الضيقة.
فالمعارضة الإسرائيلية ضعيفة وهشة، ولا تقوى على المواجهة، وأغلب قادتها سواء كان يائير لابيد، أو نفتالي بينت من الذين لا يمتلكون حضورا شعبيا حقيقيا في مواجهة النجوم الجدد في السياسة الإسرائيلية من أمثال إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش إضافة لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو.
ومن ثم فإن الدولة العبرية بأكملها أغلبية ومعارضة، انضمت إلى الموقف الرسمي دفاعا عن أمن إسرائيل بأكملها، وتوحدت في مواجهة القوى الفلسطينية، وما جرى في جنين جرى من قبل في غزة، وسيجري في أي مواجهة أخرى مرتقبة في الضفة، أو خارجها.
فعندما تتعرض إسرائيل لخطر، أو تحد أمني لا صوت يعلو على أي تجاذب سياسي أو حزبي بما في ذلك التعامل مع حكومة تبدو بالفعل متماسكة، ولها مكوناتها الحزبية الثابتة، وتمضي في تنفيذ مخططها الاستراتيجي سواء في القدس، أو غزة، ومن ثم فإن الحديث عن ضعف الحكومة أو تضارب سياستها غير صحيح.
جاءت هذه الحكومة لتحسم أسس الصراع، وليس إدارته كما كانت تفعل الحكومات السابقة ما يؤكد على أن سياسة الحكومة تتجه إلى التعامل الصفري، ودفع السلطة الفلسطينية لحافة الهاوية.
وبرغم ذلك فإن الأمر يمضي في سياقات مختلفة، حيث لا تملك الحكومة الاتفاق على تحديد مصدر الخطر المباشر والبعيد، والحديث عن مواجهة على جبهات متعددة، وفي اتجاهات الشمال وخطر المواجهة مع الفصائل الفلسطينية في غزة، والمقاومة الصاعدة في مدن الضفة.
الواضح أن الحكومة الإسرائيلية لا تملك مقاربات حقيقية، أو واضحة تجاه التعامل المرن مع السلطة الفلسطينية، فهناك تيار داخل الحكومة - برغم تطرفها، وتشدد سياستها تجاه ما يجري في الضفة، والقطاع - يدعو للإبقاء على السلطة، بل دعمها على أرض الواقع لأن البديل قد يكون خطيرا ومزعجا على أمن إسرائيل.
وهو ما يؤكد على أن دعم السلطة، وإعادة تعويم دورها قد يكونان الحل في إعادة التركيز على دور الأجهزة الأمنية وتعاونها، وإعادة هيكلة لجان الارتباط مع الضفة، بل تقديم الدعم والمتحصلات الجمركية وفقا لاتفاق باريس، والتحفظ على الإجراءات التي أقدمت عليها الحكومة، وسياسات الوزير إيتمار بن غفير.
هذا التيار النافذ يرى أن إسرائيل لا تملك البديل الآخر، أو الخيارات الحاسمة في التعامل، وأن إسرائيل تواجه خيارات صعبة في حال تمدد الاستهداف من غزة إلى الضفة، وربما في وقت ما إلى الشمال حيث ترسانة السلاح الكبيرة لحزب الله، ويؤيد هذا الموقف بعض أجهزة الأمن، وعلى رأسها جهاز الأمن الداخلي "الشاباك" الذي يتولى مسؤولية الأمن في المقام الأول.
كما توجد أصوات معتدلة في المؤسسة العسكرية من قيادات هيئة الأركان وعسكريين سابقين يرون أنه لا مصلحة حقيقية في تقويض أركان السلطة لأن البديل حالة من الفوضى الحقيقية التي ستعم الضفة الغربية، وأن مرحلة ما بعد الرئيس محمود عباس ستعني الكثير من الخيارات الصعبة على إسرائيل الاستعداد لها جيدا.
وفي مقابل هذا التيار هناك أصوات صاعدة بقوة في الجيش الإسرائيلي ترى أن هناك ضرورة قصوى في المواجهة ، والعمل في مواجهة ما يجري فلسطينيا من الآن في اتجاه التصعيد فالسلطة – في منظور هؤلاء – باتت ضعيفة وهشة، وغير قادرة على المواجهة، وأن التنسيق الأمني يجب أن يتم في سياق قيادي، وعبر اتصالات عليا، وعدم إعطاء الفرص للسلطة للعمل في ظل انهيار اتفاقيتي أوسلو وباريس على الأرض.
ويذكي من هذا التصور صعود قيادات أمنية واستراتيجية جديدة في إسرائيل على مستوى وزارة الدفاع والأمن، وهيئة الأركان وقيادات شاباك وأمان وقيادات التشكيلات في الجنوب والشمال ما يعني أن هناك حاجة حقيقية في التصعيد الأمني في مواجهة السلطة الفلسطينية على اعتبار أن هؤلاء يريدون بناء مجد سياسي وأمني، واستراتيجي جديد في مواجهة ما يجري في إطار المواجهة الراهنة، والمنتظرة، إضافة إلى العمل في مواجهة جيل السياسيين الهواة، والذين ليس لديهم خبرات سياسية، أو أمنية حقيقية ما يؤكد أن المواجهة منشودة مع الفصائل الفلسطينية، ومع السلطة، وبالتالي عدم الإنصات إلى صوت التهدئة، خاصة أن الانتظار لمرحلة ما بعد الرئيس محمود عباس قد تكون مكلفة جدا على أمن إسرائيل.
وما بين التيارين السابقين هناك ارتباك واضح في إدارة المشهد التعامل مع حلفاء السلطة الكبار سواء مصر والأردن، فهم يرون أن إسرائيل ستخسر ما حققته من مكاسب حقيقية في الإقليم بعد توقيع اتفاقيات السلام، وأعادت إسرائيل تقديم نفسها في مواجهة ما يجري في إطار مشروع السلام الأمني والاقتصادي بديلا عن السلام السياسي.
الأمر الذي يعني أن إسرائيل قد تكون في حاجة لإعادة ترتيب أولوياتها الأمنية والسياسية، وهو ما سينعكس على ما سيجري في المدى المنظور، والتركيز على الأمن بالأساس، وفي مواجهة خيارات صعبة ومعقدة، ومن ثم فإن التركيز على الأمن أولا، وتنحية الخيارات السياسية لبعض الوقت مع العمل على خيارات متسعة من الأولويات الاستراتيجية متوسطة/طويلة الأجل.
وهو ما يفسر المضي قدما في اتجاه تطوير الجيش الإسرائيلي وفقا للخطة الاستراتيجية الموضوعة، والتي ستنتهي في 2024، وتستهدف إعادة هيكلة الجيش، وتنمية إمكانياته للعمل، والحسم الاستراتيجي، مع امتلاك قدرات كبيرة في مجال الردع الاستراتيجي الاستباقي في مواجهة كل التهديدات، والتحديات الحقيقية التي يمكن التعامل، والاشتباك معها في إطار إعادة تعريف مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي في مواجهة ما يجري.
مع التركيز على الجبهات القريبة، وعلى رأسها غزة والضفة والشمال إضافة للخطر الإيراني الداعم، والمعزز لمهام، وأولويات الدولة في الحسم، والمواجهة، بل دفع أي خطر في التوقيت العاجل بل وإحباط مسارات تحركه بما يؤكد على أن إسرائيل يمكنها أن تواجه كل التحديات عبر خيارات مباشرة، واعتمادا على مؤسسات القوة الحقيقية، والتي تعلن عن نفسها لجيل من العسكريين يستثمر حضوره في مواجهة جيل الهواة من السياسيين قليلي الخبرة، وبما يعزز من فرص المواجهة والحسم المباشرة، والتي تحتاجها إسرائيل.
في المجمل فإن إسرائيل ستظل تتبنى سياسات وتوجهات متداخلة، وغير واضحة المعالم نتيجة لما يجري في الداخل، وفي إطار صراع حقيقي يدور داخل المؤسسة العسكرية من جانب، والحكومة ومكونات الأحزاب، وائتلاف الحكم ممن جانب آخر، وهو ما سينعكس على آليات التعامل مع السلطة الفلسطينية وقطاع غزة ، وسيتطلب فلسطينيا تغيير استراتيجية التعامل المقابل، وعدم الدوران في حلقة مفرغة، واتباع سياسة رد الفعل، مع تنشيط استراتيجية المواجهة عبر مسارات واتجاهات مرحلية وسياسات أكثر مصلحية، وتنحية الخلافات التي تدب بأوصالها في قطاعات السلطة مع إيجاد حلول لأزمة السلطة الفلسطينية خاصة المالية، وإعادة دعمها عربيا ودوليا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة