في شهر يناير/كانون الثاني من العام الحالي 2023، أصدرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) تقريرها السنوي عن حرية التعبير في العالم لعام 2022.
وجاء في التقرير أنه شهد ارتفاعاً في عدد الصحفيين الذين تم قتلهم في جميع أنحاء العالم بشكل كبير، بعد انخفاض على مدى السنوات الثلاث السابقة، بحيث وصل عددهم في ذلك العام إلى 86 صحفياً، بعدما كانوا 55 صحفياً في عام 2021.
وكان اللافت في تقرير المنظمة الدولية هو أن معدل الإفلات من العقاب على قتل الصحفيين لا يزال، بحسب وصف المديرة العامة لليونسكو "مرتفعاً بشكل صادم" عند 86 في المئة، وهو ما دفعها إلى دعوة السلطات المختصة إلى ضرورة "تكثيف جهودها لوقف هذه الجرائم وضمان معاقبة مرتكبيها لأن اللامبالاة تعد عاملاً رئيسياً في هذا المناخ الذي يتسم بالعنف".
وفي خلال الأيام الستة والأربعين التي مضت منذ العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة – لحظة كتابة هذا المقال، وصل عدد الصحفيين الذين فقدوا حياتهم، في غزة وجنوب لبنان، بحسب المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، إلى 62 صحفياً وصحفية، وهو نفس الرقم الذي اعتمدته نقابة الصحفيين الفلسطينيين. أما لجنة حماية الصحفيين المعروفة، ومقرها في نيويورك، فقد أعلنت قبل يومين (19 نوفمبر/تشرين الثاني) أن عدد الصحفيين الذين قتلوا جراء الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة وجنوب لبنان، وصل إلى 48 صحفياً وصحفية. وأعلنت اللجنة في بيان لها "أننا لم نشهد صراعاً أكثر دموية للصحفيين منذ بداية توثيقنا".
ولم يقتصر الأمر على الصحفيين أنفسهم، بل امتد العدوان والقتل إلى أسر البعض منهم، كما حدث مع الصحفي بقناة الجزيرة وائل الدحدوح الذي قتلت الغارات الإسرائيلية زوجته وابنه وابنته وحفيدته، وكذلك الصحفي هاني المغاري، من قناة "الأقصى"، الذي فقد 20 فرداً من عائلته في إحدى هذه الغارات، والمصور الصحفي بقناة RT خالد الدرة الذي فقد 12 شخصاً من عائلته منهم أخ وأختان، والمصور المستقل ياسر قديح الذي فقد 8 من أفراد أسرته في قصف إسرائيلي على غزة، والصحفي اللبناني سمير أيوب الذي قتلت غارة إسرائيلية على الجنوب اللبناني شقيقته وأحفادها الأطفال الثلاثة وإصابته هو شخصياً.
وتوضح هذه الأعداد غير المسبوقة للضحايا من الصحفيين عدة دلالات مهمة ولافتة. الدلالة الأولى هي أنه بصرف النظر عن التفاوت في الأرقام بين لجنة حماية الصحفيين، وكل من المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة ونقابة الصحفيين الفلسطينيين، فعدد الصحفيين الذين قتلهم العدوان الإسرائيلي خلال شهر ونصف الشهر، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية، يفوق كل الصحفيين الذين قتلتهم القوات الإسرائيلية خلال 23 عاماً منذ انتفاضة الأقصى عام 2000، والبالغ عددهم نحو 54 صحفياً وصحفية.
وتتعلق الدلالة الثانية بما يبدو أكثر من واضح من معظم حالات قتل الصحفيين وبعض أسرهم، أن الأمر في عديد منها ليس مجرد نتيجة لقصف عشوائي طالهم وأسرهم، بل يفضي تكراره إلى الاستنتاج بأن هناك حالات استهداف مؤكدة من جانب القوات الإسرائيلية.
وتنصرف الدلالة الثالثة إلى تنوع المؤسسات الصحفية والإعلامية التي ينتمي إليها هؤلاء الصحفيون الضحايا، فهي تشمل عدداً كبيراً من المؤسسات الفلسطينية والعربية والدولية، من صحف وقنوات تلفزيونية ووكالات أنباء.
وأما الدلالة الرابعة والأخيرة، فهي أن غالبية هؤلاء الصحفيين الساحقة من الفلسطينيين وبعض اللبنانيين، الذين يعملون لصالح تلك المؤسسات السابقة، وليس من بينهم أي جنسيات أخرى أجنبية، حيث تمنع قوات الاحتلال دخولهم لغزة.
الخلاصة واضحة ومريرة: أن العدوان الإسرائيلي على غزة هذه المرة مصرٌّ على تحقيق كل أرقام الدم القياسية على كل الأصعدة، فها هو يفعلها على الصعيد العالمي مع الصحفيين، حيث لم يؤدِّ أي صراع مسلح سابق في العالم منذ الحرب العالمية الثانية إلى قتل هذا العدد من الصحفيين في تلك المدة القصيرة، وهو يفعلها أيضاً مع الضحايا المدنيين خصوصاً الأطفال، الذين يقتل هذا العدوان منهم كل خمسة أيام، 600 طفل بما يعادل أقصى عدد قتل منهم سنوياً في أي دولة شهدت صراعاً مسلحاً خلال العقدين السابقين، وهو التصريح الذي صدر مؤخراً عن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.
ويبقى السؤال المنطقي الإنساني القانوني قائماً: هل هناك من حساب قادم وفقاً للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني على كل هذه الجرائم، أمام الهيئات والمحاكم الدولية المختصة؟ أم أن كل هذه الأرواح البريئة أزهقت سدى، وليس لها من قيمة، ولا حق، وتزداد عندها، وتتأكد صدقية ما سبق إيراده من تعليق للمديرة العامة لليونسكو حول "الإفلات من العقاب على قتل الصحفيين".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة