إيطاليات يعملن بأجور بخسة لصناعة ماركات ملابس عالمية تباع بألفي يورو

صحيفة "نيويورك تايمز" تكشف كواليس صناعة الأزياء في إيطاليا بتحقيق رصدت فيه الأوضاع السيئة للعاملين المساهمين في هذه الصناعة
في شقة سكنية تقع بالطابق الثاني بأحد منازل بلدة "سانتيرامو في كولي"، جنوب إيطاليا، جلست سيدة في منتصف العمر أمام منضدة مطبخها تحيك بعناية معطفا أنيقا من الصوف، يتراوح ثمنه ما بين 800 و2,000 يورو (935 إلى 2340 دولارا أمريكيا).
المعطف الذي أوشكت السيدة الإيطالية على حياكته سيطرح خلال أيام في كبرى محال الأزياء حول العالم ضمن مجموعة شتاء وخريف 2019، لكن بعد إضافة علامة صغيرة تحمل اسم دار الأزياء الإيطالية الشهيرة "ماكس مارا"، دون ذكر اسم السيدة من قريب أو من بعيد.
تعمل السيدة لدى مصنع ملابس يورد منتجاته إلى أشهر العلامات التجارية في عالم الأزياء، منها "لويس فيوتون" و"فيندي"، وطبقا للاتفاق المادي بين الطرفين تحصل السيدة على "واحد يورو فقط" مقابل كل متر تنتهي من حياكته، ووصل أكبر أجر تقاضته إلى 24 يورو عندما انتهت من حياكة معطف كامل.
كل تلك التفاصيل وأكثر لم تكن لتنكشف لولا التحقيق الاستقصائي الذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، تروي من خلاله تجربة صحفية خاضتها المحررتان إليزابيث باتون وزميلتها ميلينا لازازيرا، لرفع الستار عن العالم السري لصناعة الأزياء باهظة الثمن ذات العلامات التجارية الشهيرة.
السيدة الإيطالية طلبت من المحررتين عدم كشف اسمها حتى لا تتعرض لأي مشكلات في العمل، لكنها لم ترفض أبدا كشف أسرار مهنتها والاتفاقات التي تتم بعيدا عن أعين العملاء الذين يدفعون أموالًا كثيرة لاقتناء معطف أو بنطلون يحمل اسم علامة تجارية ما.
وقالت: "لست وحدي من أعمل بتلك الطريقة، هناك كثيرات غيري من الخياطات اللاتي يعملن بأجر لا يمكن أبدا مقارنته بأسعار المنتجات التي نحيكها، وللأسف كلنا نعمل دون عقود أو تأمين".
التحقيق أثار ردود فعل كبيرة، بل وسبب حرجا بالغا للقائمين على صناعة الأزياء، خاصة مع تزامن نشره مع فعاليات أسبوع الموضة في مدينة ميلانو الإيطالية، بلد التحقيق نفسه.
تسرد السيدة تفاصيل عملها، موضحة أن "حياكة متر واحد فقط يستغرق منها ساعة كاملة، ومن ثم تصل عدد ساعات عملها ما بين 4 و5 ساعات، لتنتهي من حياكة معطف كامل، لذا تسعى جاهدة لتنتهي من معطفين يوميا".
وتشيع ظاهرة العمل من المنزل في دول مثل الهند، بنجلاديش، فيتنام، والصين، ويندرج ملايين العمال من هذه الدول ضمن فئات أصحاب الأجور المتدنية، لوضعهم المادي غير المنتظم وعزلتهم الدائمة وافتقارهم إلى سبل الإنصاف القانوني.
الصدمة الأكبر التي كشفتها "نيويورك تايمز" في تحقيقها تتمثل في أن ظروف سكان بعض الدول النامية لا تختلف كثيرا عن وضع سكان دولة أوروبية مثل إيطاليا، تتمتع بعضوية الاتحاد الأوروبي، ولها ثقل اقتصادي وعسكري، بل إن الأمر قد يكون أصعب لأن منتجات اليد العاملة في الصين مثلًا تُباع بأسعار رخيصة حول العالم، بينما تُباع منتجات الخياطات الإيطاليات بأسعار باهظة بعد تزيين أي قطعة ملابس بعلامة تجارية لدار أزياء شهيرة، وبجوارها شعار "صنع في إيطاليا".
وقالت ماريا كولاميتا، 53 عاما، التي تعيش في بلدة جينوسا، ضمن إقليم بوليا الإيطالي، إنها عملت قبل 10 سنوات من المنزل على حياكة فساتين زفاف لصالح مصانع محلية، وكانت تحصل ما بين يورو ونصف اليورو إلى 2 يورو مقابل كل ساعة عمل.
وأضافت: "كل ثوب يستغرق من 10 إلى 50 ساعة لإنهائه، وكنت أعمل ما بين 16 و18 ساعة يوميا، وبالطبع لا أحصل على أي مقابل مادي قبل إنهاء عملي".
وتحدثت محررتا "نيويورك تايمز" مع 60 سيدة تقريبا يعشن في إقليم بوليا وحده، كلهن يعملن من المنزل دون عقد عمل منتظم.
وعلّقت تانيا توفانين، مؤلفة كتاب "المصانع غير المرئية" الذي يرصد تاريخ العمل من المنزل في إيطاليا، قائلة: "ما بين ألفين إلى 4 آلاف شخص يعملون من المنزل حاليا في صناعة الملابس".
بينما أكدت ديبوراه لوتشيتي، إحدى عضوات حملة "الملابس النظيفة" الإيطالية المعنية بمناهضة استغلال العمال والرافضة لظروف العمل الجائرة: "كلما نقبنا أكثر في سلسلة الإمداد، كانت الإساءات أكبر".
وتوصلت الصحيفة الأمريكية في نهاية تحقيقها إلى أن "الشكوك باتت تفرض نفسها الآن حول كل الأساطير التي دارت حول صناعة الأزياء الإيطالية لعقود طويلة، ولم يعد من الممكن التيقن من أن كل الملابس باهظة الثمن صنعت في أفضل الظروف على يد أمهر الحرفيين الذين يحصلون على أجور ممتازة مقابل ما يقدمونه لمحبي الملابس ذات العلامات التجارية الشهيرة".