في ذكرى ميلاده الـ100.. كمال الشيخ "هيتشكوك" السينما المصرية
كمال الشيخ يتجاوز هيتشكوك نفسه بشهادة كل النقاد تقريبا، عندما يستخدم الشكل البوليسي في التعبير عن قضايا سياسية واجتماعية ووطنية مهمة.
في صمت تام يتجاوز المألوف والمتوقع بالنسبة لمخرج كبير بحجم المخرج المصري كمال الشيخ، تحل هذه الأيام مئوية ميلاد هذا العملاق، الذي يعد أحد أبرز عظماء السينما المصرية، وواحداً من أهم 10 مخرجين في تاريخها كله؛ حيث منحها باقة دسمة ومنوعة وخالدة من الأفلام التي يتجاوز عددها الـ40 فيلماً تنوعت ما بين السياسي والاجتماعي، والتي تم عرضها في قالب بوليسي، اشتهر "الشيخ" بقدرته على صنع حبكته بصورة فريدة جعلت البعض يلقبه بـ"هتشكوك مصر".
ورغم هذا الأسلوب البوليسي، لكن كمال الشيخ الذي ولد في 5 فبراير/شباط 1919، يتجاوز هيتشكوك نفسه، بشهادة كل النقاد تقريباً، عندما يستخدم هذا الشكل في التعبير عن قضايا سياسية واجتماعية ووطنية مهمة، فلا يكتفي بمجرد التسلية وإنما يدفع المشاهد للتأمل والتحليل، وإعمال الفكر كما في "اللص والكلاب"، المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ، وهي عن قصة حقيقية تكشف الكثير من أوجاع المجتمع والمتاجرين به، أو كما في "حياة أو موت" الذي يعبر من خلاله عن تصوره للمجتمع الجديد بعد يوليو/تموز 1952، من خلال رحلة الفتاة والدواء (الذي به سم قاتل)؛ حيث تتكاتف طبقات المجتمع المختلفة ومؤسساته لإنقاذ فرد واحد، وهو نفس الفيلم الذي عرض داخل المسابقة الرسمية لمهرجان "كان" السينمائي الدولي عام 1955.
كمال الشيخ برع أيضاً في تشريح شخصيات أبطال أفلامه نفسياً واجتماعياً على خلفية الحدث الذي يطرحه؛ حيث نتابع هذا التركيب من خلال عرض الدوافع والبناء الدرامي لكل شخصية بكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة، وهي التفاصيل التي يلتقطها في معظم أعماله، ليبني من خلالها صورة كاملة تكشف عن مكنون ودوافع وتعقيد الشخصية الدرامية، وهو ما نلمسه بوضوح في أعمال من نوعية "الخائنة، اللص والكلاب، الليلة الأخيرة، بئر الحرمان"، وغيرها من الأعمال.
وقد ساعدت بداية "الشيخ" في غرفة المونتاج بالعديد من الأفلام المهمة مثل "ابن النيل، وصراع في الوادي، وباب الحديد، ورد قلبي, والمرأة المجهولة، ولا وقت للحب"، بالإضافة إلى أنه كان المونتير الخاص بأفلام أنور وجدي، في قدرته البارعة على التوليف السينمائي، والحبكة البوليسية، ناهيك عن استخدام التفاصيل الصغيرة لتحقيق الأثر المطلوب عندما يتم عرضها في اللحظة المناسبة، لذا من المستحيل أن تجد خطأ داخل أفلامه في تفصيلة أو"راكور" أو أي معلومة يمكن أن تسحب من حبكة العمل أو دقة تناوله.
كمال الشيخ نجح أيضاً في الجمع بين تصديه لإخراج 9 أعمال مأخوذة عن روايات لكتاب كبار ظهر معظمها في فترة الستينيات من القرن المنصرم، مثل نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس وفتحي غانم وجمال حماد وآخرين، مع قدرته على التشريح النفسي والسياسي والاجتماعي لشخصيات هذه الأعمال، مما أسهم في ظهور أفلام لها شخصيتها الأدبية المستقلة، لتكشف عن بناء موازٍ لا يقل إبداعاً، كما في "غروب وشروق، اللص والكلاب، ميرامار، شيء في صدري، وعلى من نطلق الرصاص".
وتنوعت الألوان السينمائية التي قدمها "الشيخ" في مراحله الأولى بين عاطفي وتشويقي وغنائي، فقدم "حبي الوحيد" و"سيدة القصر"، و"من أجل حبي"، الذي قام ببطولته فريد الأطرش، قبل أن يتجه للتشويق البوليسي، ثم يتجاوزه لطرح القضايا المختلفة التي تمس المجتمع.
وخلال أغلبية أفلامه نجح في تقديم لغة سينمائية تميزه عن كل زملائه، من خلال الإيقاع المشدود بإحكام، ورسم صور لوجوه ممثليه شديدة التعبير بدقة عن خلجاتهم داخل موضوع الفيلم، ساعده في ذلك مشاركته في كتابة سيناريوهات بعضها مثل "غروب وشروق" و"الصعود إلى الهاوية" الذي تم اعتباره أفضل أفلام الجاسوسية التي قدمت في السينما المصرية.
واعتمد "الشيخ" في أفلامه على نجوم كبار في هذه المرحلة التي عمل بها، منهم فاتن حمامة، ومديحة يسري، وعمر الشريف، وعماد حمدي، وشادية، وسعاد حسني، التي قدم معها 3 أفلام هي: "بئر الحرمان" و"غروب وشروق" و"على من نطلق الرصاص"، كما تعامل مع محمود مرسي في فيلمين متتاليين، ومحمود ياسين في ثلاثية لاحقة، ثم نور الشريف في فيلمين متعاقبين، بالإضافة إلى محمود المليجي الذي قدم معه العديد من الأعمال مثل أول أفلامه "المنزل رقم 13" ثم "بئر الحرمان" و"غروب وشروق".
ويُعتبر "الشيخ" أول مخرج مصري وعربي يقدم فيلماً عن الصراع العربي الإسرائيلي قبل العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، من خلال فيلمه "أرض السلام"، الذي قامت ببطولته فاتن حمامة وعبدالسلام النابلسي، كما كان أول مخرج مصري يشترك مع مخرج أجنبي في إخراج فيلم عالمي، مع المخرج الإيطالي لوتشيو فولشيني، وهو فيلم "د. نعم"، كما كان من أهم المخرجين الذي قدم الأطفال في السينما بشكل جديد، وأسند إليهم بطولات فيلمي "حياة أو موت"، "ملاك وشيطان" عام 1962 لرشدي أباظة، و"الشيطان الصغير" و"قلب يحترق"، وقد تم اختيار فيلمه "حياة أو موت" عام 1954 ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في السينما المصرية.
وحصل "الشيخ" على جائزة الدولة التقديرية في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة عام 1991، وتوفي في 2 يناير/كانون الثاني 2004، عن عمر يناهز 85 عاماً، بعد أن ترك بصمة لا يمكن أن تمحى في تاريخ السينما المصرية والعربية؛ حيث ظل متبتلاً في محراب السينما بمنتهى الدأب والعشق حتى النفس الأخير.
aXA6IDMuMTIuMTQ2LjEwMCA= جزيرة ام اند امز