سقوط كوثر في بداية طلعاتها التجريبية الدعائية والاستعراضية فتح الباب لتساؤلات تختصر 40 سنة من حكم الملالي للشعوب الإيرانية
يستطيع المرشد خامنئي أو أي مرجع آخر خارج ولاية الفقيه أن يجيّش الآلاف وربما الملايين من مقلديه بفتوى وسطر أو سطرين من أوامره، لكن من المستحيل أن يصدر الخامنئي بحكم سلطته السياسية أو الدينية الأوامر إلى رئيس الجمهورية والحكومة بوزاراتها لتكليف أصحاب الاختصاص إنتاج طائرة حربية حديثة ويضع لهم توقيتاً زمنياً محدداً يلزمهم به لدواعٍ إعلامية في توقيتات اللحظة الصعبة أو الحرجة التي تعصف بالنظام الإيراني ومؤسساته المختلفة.
الأخطر أن كوثر وسقوطها الفاضح فرصة لينتبه العالم والمنظمات الدولية إلى ما هو أعمق من السخرية أو الكشف عن تجربة فاشلة تتعلق بسقوط طائرة حربية في إقلاع تجريبي واضح الغايات؛ التنبه إلى ضرورة القيام بمجموعة احترازات وتقييمات بحثية من لجان دولية متخصصة وفي مقدمتها اللجنة الدولية للطاقة الذرية
في العراق والبصرة الناس يتظاهرون ويموتون ويمرضون من العطش والجفاف والتلوث، لا فتوى أو أوامر دينية يمكن أن تتدخل في أوج المأساة التي يصفها بعض المحسوبين على الأحزاب الحاكمة بأنها أكثر أثراً على الشعب العراقي من إرهاب تنظيم الدولة وجرائمه واحتلاله ثلثَ مساحة العراق.
مدن النسغ النازل لنهري دجلة والفرات من تركيا وسوريا مع روافد دجلة الآتية من إيران ابتداءً من الزاب الصغير، تعاني من نقص المياه أو من "حرب المياه" وهي حرب تتعدى في سياقاتها ومؤثراتها الحرب العسكرية التقليدية بين الدول.
إن أي دولة تتغاضى عن وصف حرب العطش الجارية مع العراق من قبل تركيا وإيران إنما تسهم بقصد في العدوان تضامناً مع سياسة الدولتين، أو أن حكام العراق وأحزابهم ومليشياتهم متواطئون بأتم معنى الكلمة ربما لمعرفتهم أدوارهم الحقيقية التي لا تتعدى في كل الأحوال الوظائف الرمزية لسلطات دولة تعاني من غياب قوة قرارها وضمور إمكاناتها الدبلوماسية وضعف سيادة قواتها النظامية على أراضيها، لذلك تزداد مطالب الردع ولو شكلياً للتلويح بحجم المأساة التي يتعرض لها شعب العراق، لإجبار المجتمع الدولي على الالتفات إلى أوضاع ترتقي إلى الإبادة الجماعية المتعمدة.
الصمت المطبق أو الهمس الخجول أثناء زيارة رئيس الوزراء حيدر العبادي في مسامع القيادة التركية واضح الأسباب والمبررات، بعد رفض استقباله في إيران نتيجة لإحدى شطحاته الأسبوعية في مؤتمراته الصحفية لأنه اعتقد في لحظة طارئة أنه رئيس وزراء لدولة ذات سيادة على قرارها؛ قبل أن يسهم هو وحزبه، حزب الدعوة، والأحزاب الإيرانية الأخرى مع مليشياتهم وعديد الخونة والمتورطين في احتلال العراق.
السلطة في العراق ليس بمقدورها رفع صوتها عالياً ضد تركيا بمفترق طرق الانتخابات وتشكيل الكتلة الأكبر وترشيح رئيس للوزراء، لأن إيران بصريح العبارة أطلقت النار على شط العرب وحولت مجرى الأنهار العذبة إلى داخل أراضيها، وعددها يقترب من الأربعين نهراً.
مَن يتجرأ على إدانة النظام الإيراني من أحزاب السلطة عليه أن يشرب من البحر ومن كأس السم التي تذوقها العبادي في رفض زيارته لطهران، وتجاهله لها بالرد أو الإشارة وابتلعها بالتودد والتراجع، رغم أن رفض زيارة أي وفد رسمي حتى لو كان على مستوى طلاب المدارس كان سيثير اِلْتباساً بين الطرفين وتساؤلات حادة تتطلب الاعتذار أو التوضيح على الأقل.
انتهت فتوى "الحشد الشعبي" إلى كارثة سياسية على سيادة الدولة ومستقبلها وحتى على المرجعية وعلى العلاقات الدبلوماسية واحترام مصداقية العراق وحكومته، رغم أن السياقات العسكرية التقليدية كان بإمكانها تحشيد المقاتلين الهاربين من ساحة الموصل وإعادة تأهيلهم إضافة إلى زج الشباب في القوات المسلحة، لأن ذلك يأتي من ضمن إمكانات ومؤهلات سوقية في التدريب والتسليح وغيرهما الكثير.
لكن أن تأتي بالماء بفتوى أو تصنع طائرة حربية مثل كوثر بأوامر من رجل دين يعتقد أن العلوم والتكنولوجيا أيضاً رهن إرادته فذلك ما جر الويلات على المنطقة وإيران ودخولهما معاً في فوضى الصلاحيات وتنفيذ الأوامر في ظل غياب التخطيط ومستلزمات تراكم الخبرات العلمية وقواعدها الرصينة ومؤهلاتها وجامعاتها التكنولوجية المتناقضة تماماً مع توجهات الجامعات الإيرانية ومدارسها العقائدية المنتشرة في العراق وسوريا وباقي الدول المصابة بهوس الفتنة المذهبية التي يروج لها نظام ولاية الفقيه.
سقوط كوثر في بداية طلعاتها التجريبية الدعائية والاستعراضية فتح الباب لتساؤلات تختصر 40 سنة من حكم الملالي للشعوب الإيرانية وكيفية تحويلها إلى إحصاءات دموية في التعذيب والسجون وأعداد الإعدامات والتنكيل بالمواطنين الأحرار، والتفنن في الموت الجماعي في مأساة الحرب الإيرانية العراقية وصناعة الإرهاب والمليشيات والعنف خارج حدودها الجغرافية تحت ثقافة ولاية الفقيه المدعومة بأدوات الحرس الثوري وفيالقه الأمنية وأجهزته البربرية.
إطلاق كوثر، وقبلها إطلاق الصواريخ الباليستية المتخلفة قياساً بالتقدم العلمي، يعيدنا بأثر رجعي إلى مقولة روجت لها مصادر الإعلام تبريراً لهزائم النظام الإيراني في الأشهر الأولى من حرب الخميني اللاهثة لاحتلال العراق بأسرع مدة زمنية، خاصة بعد أن تفاجأ بالرد العراقي في 22 سبتمبر 1980 على العدوان والتحرشات الإيرانية التي بدأت في 4 سبتمبر من الشهر ذاته.
نظام الملالي وجد نفسه تحت وقع هيستيريا الصدمة من جرأة العراق، بإمكاناته التسليحية المتواضعة وحجم سكانه وجيشه ومساحة أراضيه، في الإقدام على التوغل داخل الأراضي الإيرانية في قاطع الوسط والجنوب والتموضع في مدنه الصغيرة ومنها مدينة "ديزفول" حيث سقطت قبل أيام الطائرة الحربية كوثر وهي طائرة من طراز F.5 الأمريكية من إنتاج ستينيات القرن الماضي.
دفع نظام الملالي في طهران بعد يوم واحد من الرد العراقي بأكثر من 120 طائرة من شقيقات كوثر على مدينة بغداد في هجوم مروع ضمن سياقات حرب المدن أو العواصم؛ أسقطت منها 67 طائرة بالدفاعات الأرضية العراقية والمواجهات الجوية المباشرة، وعلى وقع تندر العراقيين حينها من سقوط هذا العدد تسابق بعض المحللين إلى إضفاء الذكاء على قرار الخميني بزج العشرات أو المئات من الطائرات وذلك بغية التخلص من الطيارين الإيرانيين من الذين لا يضمن ولاءهم لنظامه.
سقوط كوثر علامة انحطاط لمنظومة الدولة وخضوعها لأوامر أنتجت السخرية والتهكم في ذروة صراع العقوبات، وأكدت كذلك مدى الاستهانة بالطيارين أو بعموم الحياة الإنسانية للشعوب الإيرانية أو شعوب العالم؛ وفي تجارب الحرب مع العراق أمثلة لا حصر لها على تلك الاستهانة.
الأخطر أن كوثر وسقوطها الفاضح فرصة لينتبه العالم والمنظمات الدولية إلى ما هو أعمق من السخرية أو الكشف عن تجربة فاشلة تتعلق بسقوط طائرة حربية في إقلاع تجريبي واضح الغايات؛ التنبه إلى ضرورة القيام بمجموعة احترازات وتقييمات بحثية من لجان دولية متخصصة وفي مقدمتها اللجنة الدولية للطاقة الذرية، لتدارك كوارث الإخفاقات العلمية والأمنية المحتملة للمفاعلات النووية وأماكن وجودها ومدى الأضرار التي لحقت بها جراء الزلازل الأخيرة وسابقاتها بما يؤثر على دول الخليج العربي والعراق تحديداً.
الهوس بالتحدي يمثل انفراطاً وخرقاً للمواثيق العلمية والقانونية والأخلاقية للتجارب العلمية في مجال التسليح والطاقة والمفاعلات النووية أيضاً، بما يبرر على الأقل للعراقيين الذين أصابهم الابتلاء التيقن بعد التشكك في نيات وجهل وحماقة الأحزاب السياسية والطائفية وبرامجها وحكوماتها المقبلة وصمتها عن نفايات الإخفاقات البيئية ومخلفات المفاعلات النووية وآثارها على الأرض العراقية أو في شط العرب وما يتسرب منها إلى مياه الخليج العربي؛ أو في إسقاط أوامر المرشد على معادلات وتفاعلات المشهد السياسي في العراق على طريقة استعراض الولاء المطلق في إنتاج وكذلك إسقاط كوثر.
نقلا عن "العرب اللندنية"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة