مرحلة ما بعد زيارة الأمير محمد بن سلمان ستدشن فترة أكثر تفاعلاً ونمطاً أكثر توازناً، وهو ما تدركه الإدارة الأمريكية عن قرب.
لا تمثل زيارة الأمير محمد بن سلمان لواشنطن مجرد زيارة للأمير الشاب الواعد إلى دولة عظمى تربطها بالسعودية أواصر من العلاقات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية، ممتدة بطبيعة الحال منذ سنوات طويلة وتتعدد ملفاتها وقضاياها.
ومن ثم فإن الزيارة من حيث الأهمية توقيتا وقضايا تبدو في غاية الأهمية للجانبين السعودي والأمريكي معاً، وبالتالي فإن النتائج الإيجابية المتوقعة مرتبطة بنمط ومضمون ما سيتم التوافق بشأنه بين الجانبين بعيداً عما تم طرحه في قائمة أولويات العلاقات السياسية والاستراتيجية بين الجانبين.
مرحلة ما بعد زيارة الأمير محمد بن سلمان ستدشن فترة أكثر تفاعلاً ونمطاً أكثر توازناً، وهو ما تدركه الإدارة الأمريكية عن قرب، والتي ترى أن دول الخليج العربي بسياستها الجديدة ستغير من المعطيات الراهنة للنظام الإقليمي العربي بأكمله، وأن الأساس تحقيق مصالح المنطقة، وليس مصالح القوى الأخرى.
ما بعد الزيارة هو الأهم في إطار بحث قضايا إقليمية عدة؛ على رأسها الأزمة في اليمن وسلوك إيران المزعزع للاستقرار في الإقليم بأكمله، والدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط، ووحدة مجلس التعاون الخليجي وقضايا ثنائية أخرى.
وفي التقدير العام فإن المنطلق العام الذي أكد عليه الأمير محمد بن سلمان هو أن الدولة السعودية الجديدة التي ينطلق بها الأمير نحو آفاق كبيرة هي دولة مختلفة بالفعل، وأن ثمة تحولات حقيقية ستجرى في السعودية، وعلى الغرب تقديرها والتعامل معها سواء في السياسات العامة التي ستعمل عليها أو جدول أعمال الدولة الجديد الذي يدعو إليه ولي العهد مؤمناً بالفعل بقدرة بلاده على تحقيقها في بيئة إقليمية مرتبكة وغير مستقرة، وأن النموذج الذي يسعى إليه الأمير محمد وقادة دول الخليج نموذج جديد للتحول السياسي والاقتصادي، سيجعل دول الخليج العربي سواء كانت السعودية، أو دولة الإمارات العربية المتحدة في مصاف الدول الرائدة والمتفردة في المنظومة الإقليمية في الفترة المقبلة، والتي يجب أن تتعامل معها الولايات المتحدة من هذا المنطلق الجديد والنظر لطبيعة الدورين السعودي والإماراتي المتنامي في الإقليم وخارجه، وهو دور مقدر ومهم وكاشف للتحولات المقبلة في المنطقة بصرف النظر عن ردود الفعل المتوقعة من الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة خاصة في الملفات العربية التي لا تزال مشاهدها مفتوحة على مشاهد وسيناريوهات عدة.
إن التفاعل مع نمط التوجهات الجديدة لدول مثل السعودية أو الإمارات العربية المتحدة، يجب أن يتطلب إعادة قراءة الدول الغربية - وفي القلب منها الولايات المتحدة - لحجم المتغيرات التي تشهدها هذه الدول والدور التفاعلي لها في التعامل مع الإقليم بأكمله، والبحث عن التوصل لآلية حقيقية للممارسة السياسية، وإقامة علاقات عربية ودولية حقيقية قائمة على المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، وهو ما يجب أن تدرك أبعاده الولايات المتحدة التي تتعامل من منطلق نظرية (النفقة والتكلفة والعائد) و(حسابات المكسب والخسارة)، وهو الأمر الذي طبق في مواقف عدة للإدارة الأمريكية في تعاملها مع قضايا المنطقة، خاصة في المرحلة التي تلت زيارة الرئيس الأمريكي ترامب للسعودية.
من هذا المنطلق وجّه الأمير محمد بن سلمان رسائل رادعة إلى إيران سواء في الرسالة الأهم أن السعودية ستسعى إلى امتلاك القنبلة النووية في حال طورت إيران قنبلة نووية، والرسالة المباشرة التي وُجهت في توقيت بالغ الأهمية أن الرادع السعودي استراتيجياً وسياسياً طُرح، وعلى الملأ من واشنطن كي لا تظن إيران أنها بمنأى عن أي تهديد، خاصة مع حرص الأمير محمد، على التأكيد على الخطر الإيراني الحقيقي في دعم المليشيات الحوثية، والقيام بمناورات على الحدود مع السعودية وإطلاق الصواريخ على مدن المملكة.
هنا الرسالة واضحة أن السعودية الجديدة لن تقبل بأية تجاوزات يمكن أن تهدد الجانب الخليجي، ومن ثم فإن ما أكد عليه الأمير محمد بن سلمان يصب في إطار الرسائل الاستراتيجية قصيرة المدى التي لا تحتاج إلى تفسيرات أو تأويلات من أي نوع خاص، وأن الصورة القديمة للسعودية كدولة قانعة لدى أذهان الغرب لم يعد لها وجود، وأن الدولة السعودية الجديدة قادمة بكل معطياتها وتحولاتها الحقيقية التي لن تقتصر على منظومة العلاقات مع الغرب أو في الإقليم، بل ستمتد إلى شكل جديد من السياسات الواقعية التصاعدية وانتهاج نموذج من المشاركة الداخلية والتعامل مع شرائح المجتمع السعودي بأكمله، وليس فقط النساء، وبالتالي فإن الهدف الحقيقي للتحول المجتمعي ومن قبل السياسي إقرار النموذج الحقيقي الذي يجب على الدولة السعودية الكبيرة في سياقها الخليجي والعربي أن تصبو إليه بالفعل وتسعى إليه.
في هذا السياق ستكون مرحلة ما بعد زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن مرتبطة بالفعل بالمستقبل المنظور، وفي إطار من السيناريوهات الجديدة للسياسة السعودية ستقوم على عدة مسارات الأول: الندية في العلاقات السعودية الدولية، وهو ما سيدفع السعودية وأميرها الشاب الواعد أن يتحرك في المنظومة الدولية لتشييد نموذج من العلاقات التي تبنى على منطق الرشادة السياسية، وإقامة علاقات متكافئة مع القوى الكبرى مع الاستمرار في نمط الشراكة السعودية الأمريكية، وإن كان هذا المسار سيرتبط بما يمكن أن تلتزم به الإدارة الأمريكية تجاه السعودية، والعمل على ترجمة تصريحات وأقوال المسؤولين في الإدارة إلى إجراءات حقيقية تصب في صالح تنمية وتطوير العلاقات، خاصة أن الأمير محمد حريص على هذا التوجه خاصة مع إبرام اتفاقات تجارية بقيمة 35 مليار دولار للشركات الأمريكية، ستدعم 120 ألف وظيفة في الولايات المتحدة، وكذلك التوافق السعودي الأمريكي بشأن الدور الروسي المتنامي في الشرق الأوسط، ودعم موسكو لنظام بشار الأسد في سوريا، فضلاً عن الدعم العسكري الروسي المتزايد لطهران. وفي هذا المسار سيظل المستهدف أيضاً الانفتاح على روسيا وإقامة علاقات متميزة مع بريطانيا وبناء منظومة علاقات فعالة مع الاتحاد الأوروبي.
المسار الثاني: بناء مراكز حضور سياسية واستراتيجية انطلاقاً من منطقة الخليج العربي إلى العالمين العربي والإسلامي اعتماداً على الثقل السياسي الكبير للدولة السعودية الجديدة التي يسعى الأمير محمد بن سلمان للوصول إليها واستثمار المعطيات الكبيرة لحسابات القوة الشاملة، والحقيقة أن السعودية ليست وحدها في إطار هذا التحرك المدروس والمخطط بل أيضاً هو ما تقوم به دولة الإمارات العربية المتحدة التي شيدت نموذجاً للعلاقات العربية والإقليمية والدولية على أسس ومرتكزات جديدة، وباتت فاعلاً إقليمياً ودولياً بارزاً بفضل الدبلوماسية الرشيدة الذكية التي يتبعها سمو الشيخ محمد بن راشد وسمو الشيخ محمد بن زايد، وبالتالي فإن التوقع بأن تتطور العلاقات السعودية والإماراتية في سياقها الإقليمي والدولي سيتم، ومن خلال تحركات مدروسة في قضايا الإقليم سواء بالنسبة للتعاملات السعودية الإماراتية المستقبلية والقائمة على رؤية أكثر واقعية ووضوحاً.
ومن ثم فإن مرحلة ما بعد زيارة الأمير محمد بن سلمان ستدشن فترة أكثر تفاعلاً ونمطاً أكثر توازناً، وهو ما تدركه الإدارة الأمريكية عن قرب، والتي ترى أن دول الخليج العربي بسياستها الجديدة ستغير من المعطيات الراهنة للنظام الإقليمي العربي بأكمله، وأن الأساس تحقيق مصالح المنطقة، وليس مصالح القوى الأخرى، وبالتالي فإن هذا المسار سيعيد رسم السياسات الجديدة للدولة السعودية الجديدة، ويحدد أولوياتها وفقاً لنهج تفاعلي حقيقي.
المسار، الثالث: إعادة تنمية الحضور السعودي في التنظيم الدولي بأكمله سواء على مستوى الدول أو الأمم المتحدة، وكذلك في حل وتحليل الصراعات والنزاعات العربية والإقليمية وفقاً لحسابات وطنية ولمصلحة منطقة الخليج العربي ودوله، وهو ما ستعمل عليه القيادات الخليجية سواء في السعودية أو دولة الإمارات العربية المتحدة برموز حكمها وخبراتها، وإمكانياتها الهائلة التي ستوظف لتحقيق الاستقرار في الإقليم بأكمله، ومن ثم فإن رفض التدخلات الأجنبية والتحذير من الدور الإيراني الحالي في الإقليم يجب أن يحظى بالأولوية، ويجب التعامل معه بصورة مباشرة وفعالة.
إن زيارة الأمير محمد بن سلمان للولايات المتحدة ليست زيارة عابرة، إنما هي زيارة مهمة وفارقة، وستبني عليها رؤية أكثر وضوحاً وتنظيماً للتفاعل السعودي الراهن والمنتظر مع العالم، وليس الشرق الأوسط فقط، وهو ما يجب تفهم أبعاده وتحليل تداعياته المهمة في المديين القصير وطويل الأجل بما يحقق مصالح دول الخليج العربي بأكمله.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة