رد فعل الحكومة العراقية يجب أن يكون: نعم لإجراء حوار مباشر وبسرعة، يدعم من الحكم الذاتي لإقليم كردستان
في السياسة نادراً ما يتم كسب أي معركة بالضربة القاضية، ولا يحدث ذلك إن حدث، سوى في الحالات المتطرفة التي تتضمن تحول الصراع السياسي إلى صراع عسكري عنيف وممتد، ويضم أكثر من طرف، كالحروب العالمية مثلاً. بل إن حكماء رجال الحكم غالباً ما كانوا يسعون إلى محاولة تحجيم آثار هذه الضربة القاضية بمحاولة استيعاب المهزومين، وتوجيه طاقاتهم العدوانية ورغبتهم في الانتقام إلى طاقة للبناء وصنع الرخاء، باعتباره الضمانة الحقيقية لكي يسود سلام حقيقي بين الجميع.
كانت هذه هي رسالة الحرب العالمية الثانية التي شهدت لأول مرة استخدام السلاح النووي لإنهاء الحرب، بوسيلة ربما كانت تعني أكثر بكثير مما تعنيه الضربة القاضية. بينما على العكس كان إنهاء الحرب العالمية الأولى باتفاقية مذلة لألمانيا، وبفرض تعويضات مالية ضخمة عليها سبباً في بقاء الأحقاد والعدوانية الألمانية في الأعماق، حتى وجدت متنفسها مع النظام النازي، الذي سرعان ما فجّر طاقة العدوان وروح الانتقام والثأر لدى الشعب الألماني، لتنفجر الحرب العالمية الثانية. وهكذا فإن ما بدا على السطح كضربة قاضية لألمانيا سرعان ما تبدّد، ليتبين أنها لم تكن سوى ضربة أنهت جولة أفسحت الطريق لجولة أخرى أشد عنفاً وتدميراً ليس فقط لأوروبا، كما في الحرب العالمية الأولى، بل ولأجزاء واسعة من العالم كله.
وكان بعض السياسيين الذين شاركوا في محادثات ما بعد الحرب العالمية الأولى؛ قد تحدثوا علناً عن أن فرض اتفاقية مذلة، وتعويضات تبقي مستوى معيشة الشعب الألماني رهينة لها لفترة طويلة هي الوصفة المثلى لنشوب النزاع مستقبلاً. كان هذا، على سبيل المثال، هو موقف الاقتصادي الإنجليزي المرموق، وربما أهم اقتصاديي القرن العشرين، اللورد جون ماينارد كينز، الذي انسحب من محادثات مؤتمر باريس للسلام في 1919، والتي شارك فيها كعضو في الوفد البريطاني. وأعلن كينز لاحقاً احتجاجه على ما تضمنته "معاهدة فرساي للسلام" في كتابه "العواقب الاقتصادية للسلام"، حيث تنبأ بأن التعويضات الباهظة التي فرضتها المعاهدة على ألمانيا سوف تؤدي إلى انهيارها المالي، وسوف تترتب على ذلك عواقب اقتصادية وسياسية وخيمة على أوروبا والعالم.
ثبت للقيادة الكردية بل وللشعب الكردي بكامله بشكل واضح وعملي، أن إعلان الاستقلال هو أمر مستحيل بحكم طبيعة الإقليم كأرض مغلقة، لا يوجد لها منفذ بحري على العالم الخارجي. وهو مستحيل بحكم المواقف الإقليمية للبلدان المحيطة بكردستان، والتي تعد منفذها الوحيد للخارج.
نسوق ما حدث لأننا نخشى من أن تتجه الحكومة العراقية، التي تسعى لفرض وحدة وسيادة أراضي العراق بما قد يترتب على سعيها بأسلوبها الراهن؛ إلى عكس ما تهدف إليه. فبعد أن أعلنت قيادات كردستان موافقتها على بدء الحوار على أساس الدستور العراقي، وتجميدها لنتائج الاستفتاء الذي أسفر عن موافقة أغلبية ساحقة بلغت نحو 93% من الأكراد على الاستقلال عن العراق، أعلنت حكومة العراق عدم قبولها سوى، كما قال رئيس الوزراء حيدر العبادي، بإلغاء نتائج الاستفتاء قبل الشروع في الحوار.
والواقع أن تجميد أو إلغاء نتائج الاستفتاء كأمر رمزي ربما تكون مهمة للحكومة العراقية، ولكن من حيث الواقع يبقى أن الاستفتاء قد أُجرِي بالفعل، وأن نتائجه قد أُعلِنت بالفعل، وهو الأمر المهم ولو رمزياً أيضاً في هذا الشأن. وليس أدل على ذلك من أن مسعود برزاني، وهو يعلن تخليه عن الرئاسة، قال "أنا ما زلت مسعود برزاني... أنا فرد من البشمركة، وسأواصل مساعدة شعبي في كفاحه من أجل الاستقلال"، وأضاف " ثلاثة ملايين صوت لصالح استقلال كردستان صنعوا تاريخاً لا يمكن محوه".
وقد ترى الحكومة العراقية أن هذا هو الوقت المناسب للضغط بأقصى ما يمكن لانتزاع التنازلات عند بدء الحوار، ولكنها قد تكون في الطريق قد ارتكبت عدة أخطاء واضحة، قد يترتب عليها نتائج غير مرغوبة. فقد صدرت بعض التصريحات التي ترفض ما قدمه مسعود برزاني من أجل بدء الحوار عن قوات "الحشد الشعبي"، وهو خطأ كبير إذ كان ينبغي ألا تصدر أي تصريحات سوى عن القيادة السياسية العراقية التي ستدير الحوار، بحيث لا يبدو أن هناك عدة إرادات، ولكي لا يتم أيضا إثارة اللغط حول الجهة التي تستقي منها قوات الحشد الشعبي أوامرها.
الخطأ الثاني هو الإسراع باستخدام القوة العسكرية لفرض سيطرة قوات الحكومة العراقية المركزية على المنافذ والمعابر خاصة مع تركيا، وفي عدة مناطق أخرى خارج إقليم كردستان، كانت قوات البشمركة قد سيطرت عليها بعد اقتحام إرهابيو داعش لشمال العراق. وحسنا فعلت القيادة السياسية العراقية إلى المسارعة بوقف هذه المعارك، وإعطاء مهلة أربع وعشرين ساعة للمفاوضات ما بين ممثلين للحكومة العراقية وممثلين لقوات البشمركة، وهي مفاوضات أدت إلى إقرار السيطرة الثنائية على هذه المعابر والمواقع.
الأمر المهم الآخر أن الحكومة العراقية ربما تكون قد نجحت في شق الصف الكردستاني، بدخولها لمدينة كركوك في ظل ما قيل أنه اتفاق مسبق مع قوات البشمركة التابعة لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني التي كانت تسيطر على أجزاء واسعة من المدينة. وربما تمضي المغالاة في فرض شروط قاسية للحوار ومحاولة انتزاع ما قد تعتبره الحكومة مكاسب من أجل وحدة وسيادة العراق، لتنقلب إلى مصدر لحالة من عدم الاستقرار، سواء داخل إقليم كردستان، أم في سائر أنحاء العراق لفترة طويلة. إذ يجب الالتفات إلى أن مسعود برزاني، الذي أعلن انسحابه إلى صفوف البشمركة، أعلن في نفس الوقت أن أتباع جلال الطالباني مؤسس الاتحاد الوطني الكردستاني مدانون "بالخيانة العظمى"، لتسليمهم مدينة كركوك النفطية للقوات العراقية دون قتال، وهو أمر يستحق بذل الجهد لمعالجته على نحو عاجل قبل الشروع في المباحثات، بحيث لا يبدو وكأن المحادثات قد تتضمن أطرافاً وتقصي أطرافاً آخر.
وينبغي أن يتم بدء الحوار في ظل فهم واقع أن إعلان مسعود برزاني لانسحابه كان إقراراً بالهزيمة في معركة الاستفتاء حول الاستقلال، ولكنه ليس إقراراً بالهزيمة في الحرب.
يكفي كما نتصور أنه ثبت للقيادة الكردية، بل وللشعب الكردي بكامله بشكل واضح وعملي، أن إعلان الاستقلال هو أمر مستحيل بحكم طبيعة الإقليم كأرض مغلقة لا يوجد لها منفذ بحري على العالم الخارجي. وهو مستحيل بحكم المواقف الإقليمية للبلدان المحيطة بكردستان، والتي تعد منفذها الوحيد للخارج. وهو مستحيل أيضاً، لأنه يتعارض مع الدستور العراقي الذي أعطى حكماً ذاتياً واسعاً للإقليم استجابة لخصوصيته. وهو مستحيل لأن كل ذلك قد حدث في إطار عالمي غير مرحب، إذ ما من دولة تجرأت على مساندة إجراء هذا الاستفتاء سوى إسرائيل، بينما لم تقدم دولة واحدة ذات نفوذ حقيقي في النظام العالمي على إبداء، ولو حتى مجرد التعاطف مع استقلال الإقليم.
لكل ما سبق نرى أن رد فعل الحكومة العراقية يجب أن يكون: نعم لإجراء حوار مباشر وبسرعة، يدعم من الحكم الذاتي لإقليم كردستان العراق، ويعمل على ضمان سرعة تنمية الإقليم وكافة أرجاء العراق في إطار من تقاسم عادل للثروة الوطنية، وفي إطار الحفاظ على وحدة وسلامة كافة الأراضي العراقية، ودون انتقاص أو مهانة للكرد، أو لأي مكون وطني من مكونات أرض العراق الموحد.
أرجوكم لا تحشروا الأكراد في زاوية، وخذوا العظة من تجارب دولية عديدة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة