أمريكا الجنوبية تعيش اليوم مرحلة مفصلية في إعادة صياغة موقعها في النظام الدولي، بعدما ظلت طويلًا تُنظر إليها بوصفها «الحديقة الخلفية» للولايات المتحدة.
التحولات الداخلية والخارجية جعلت منها لاعبًا استراتيجيًا في قضايا البيئة والموارد والطاقة المتجددة، وأعادت تسليط الضوء على ثرواتها الطبيعية ودورها في موازين القوى العالمية.
تتميز القارة بامتلاكها إمكانات زراعية هائلة، إذ توفر البرازيل والأرجنتين نسبة كبيرة من الغذاء العالمي، ما يجعلها رقمًا أساسيًا في ظل أزمة الأمن الغذائي الناتجة عن التغير المناخي والحروب التجارية. كما أن «المثلث الذهبي» (بوليفيا - الأرجنتين - تشيلي) يحتضن أحد أكبر مخزونات الليثيوم في العالم، الذي بات يُعرف بـ «نفط القرن الحادي والعشرين» لدوره الحيوي في صناعة البطاريات والسيارات الكهربائية. يُضاف إلى ذلك موقع الأمازون كأكبر غابة مطيرة في العالم، ما يجعل من القارة محورًا في النقاشات المناخية بين حماية البيئة واستغلال الموارد.
لكن الداخل الجنوبي الأمريكي معقد، إذ تعيش المنطقة تقلبات سياسية بين أنظمة يسارية تدعو إلى العدالة الاجتماعية وأنظمة يمينية شعبوية أو ليبرالية، وهو ما يعكس أزمة مؤسساتية عميقة، وتفاوتًا اجتماعيًا صارخًا، وفشلًا في تحقيق الاستقرار. ورغم ذلك، تدفع هذه الأزمات أحيانًا إلى تجريب صيغ حكم جديدة قد تختلف عن أنماط الشمال العالمي.
في المقابل، يزداد الحضور الخارجي في القارة: الصين باتت مستثمرًا رئيسيًا في البنية التحتية والمواد الخام، مستفيدة من تراجع النفوذ الأمريكي. الاتحاد الأوروبي يسعى لربط المنطقة بالاقتصاد الأخضر عبر اتفاقيات تجارية، فيما تحاول روسيا تعزيز حضورها السياسي والعسكري، وإن ظل محدودًا مقارنة بالصين والولايات المتحدة.
هذا التعدد في الشراكات يضع القارة أمام خيارين: إما تنويع علاقاتها والخروج من التبعية التقليدية لواشنطن، أو الوقوع في فخ استقطاب جديد إذا فشلت في بلورة سياسة خارجية إقليمية موحدة عبر مؤسسات مثل «ميركوسور» و«أوناسور».
إلى جانب ذلك، تمتلك أمريكا الجنوبية قوة ناعمة مؤثرة، من كرة القدم التي تحولت إلى هوية جماعية عابرة للحدود، إلى الأدب اللاتيني الذي صاغ حضورًا ثقافيًا عالميًا، إضافة إلى الموسيقى والسينما. هذه العناصر أسهمت في تجاوز صورتها التقليدية كمصدر للمواد الخام، لتصبح مرجعًا حضاريًا وثقافيًا.
غير أن التحديات الأمنية والبيئية قائمة: الجريمة المنظمة وعصابات المخدرات تهدد استقرار المجتمعات والدول، بينما يزيد التغير المناخي من هشاشتها عبر الجفاف والفيضانات وحرائق الأمازون. ومع ذلك، تبقى القارة مؤهلة للعب دور عالمي استراتيجي بفضل مواردها الطبيعية ومجالها الحيوي لإعادة صياغة العلاقات مع القوى الكبرى، فضلًا عن كونها مختبرًا لتجارب سياسية واجتماعية جديدة.
خلاصة القول، تقف أمريكا الجنوبية أمام فرصة تاريخية لتصبح قطبًا فاعلًا في عالم متعدد الأقطاب، مستفيدة من ثرواتها ووزنها البيئي والثقافي. لكن ذلك مرهون بقدرتها على معالجة أزماتها الداخلية، ومحاربة الفساد، وتعزيز التكامل الإقليمي والديمقراطية. فمستقبل القارة لن يُحدد فقط بما تملكه من موارد، بل بقدرتها على تحويلها إلى نفوذ سياسي واقتصادي مستدام في عالم يُعاد تشكيله بسرعة غير مسبوقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة