ماذا يجري في أمريكا اللاتينية؟
تسارع وتيرة الاحتجاجات في أمريكا اللاتينية يؤدي إلى بعض التطورات السياسية والاقتصادية المهمة في المستقبل.
تشهد أمريكا اللاتينية في الوقت الراهن العديد من التطورات والأحداث التي من شأنها إعادة صياغة المشهد السياسي في المنطقة، ومرجح أن تكون لها تداعيات كبيرة على خريطة العلاقات الدولية لبلدان القارة.
ولا تقتصر التطورات السياسية في أمريكا اللاتينية على المظاهرات التي اجتاحت العديد من دول القارة، بل إن تلك المظاهرات نفسها، كانت كاشفة عن عمق التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الجارية بأمريكا اللاتينية.
وتجتاح بعض دول أمريكا اللاتينية مظاهرات حاشدة اعتراضًا على تطبيق سياسات اقتصادية تقشفية، والتي تضمنت إصدار قرارات حكومية برفع تعريفة الركوب (تشيلي)، إلغاء الدعم الحكومي على الوقود (الإكوادور)، وخفض التمويل الفيدرالي على التعليم (البرازيل). وبدت المظاهرات، لبعض المحللين، وكأنها شكل من أشكال الغضب الشعبي من تقليص الإنفاق والدعم الحكومي.
وإذا كان النظر إلى الاحتجاجات الشعبية باعتبارها رفضًا للسياسات الاقتصادية التقشفية التي طبقتها بعض الحكومات اليمينية في أمريكا اللاتينية مثلما الحال في تشيلي والبرازيل أو حتى اليسارية مثلما الحال في الإكوادور، يمكن أن يُقدم بعض التفسير لحالة الغضب المنتشرة بين مواطني دول القارة اللاتينية، إلا أنه لا يقدم تفسيرًا كاملًا لحقيقة الأوضاع هناك، وذلك للأسباب التالية:
1- ترتبط الاحتجاجات الشعبية، بدرجة كبيرة، بسيادة حالة من الإحباط بين المواطنين العاديين: حيث يشعرون بخيبة أمل كبيرة في السياسيين في بلادهم، بسبب تراجعهم عن وعودهم بتحقيق الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، إضافة إلى زيادة الشعور بالهوة بين الحكومة والمواطن العادي، وترسخ القناعة بين عموم الشعب بأن السياسيين لا يمثلونهم ولا يدافعون عن مصالحهم، بل يدافعون عن مصالح حفنة قليلة من الشعب.
2- لم ترفع الاحتجاجات الشعبية الشعارات المطالبة بتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فحسب: بل كان المحرك الأساسي لبعضها هو المطالبة بتوطيد أسس النظام الديمقراطي، ضمان شفافية العملية الانتخابية، والتصدي للفساد وعنف الشرطة، مثلما الحال في فنزويلا، بوليفيا، هايتي، هندوراس، وكذلك كولومبيا وبيرو.
ماذا عن الدول الأكثر استقرارًا في المنطقة؟
إذا كانت الاحتجاجات التي تشهدها دول أمريكا اللاتينية، قد تركزت بالأساس في الدول التي تعاني من عدم الاستقرار الأمني والسياسي، وتلك التي تواجه صعوبات اقتصادية واجتماعية عميقة، ومن ذلك فنزويلا، بوليفيا، الإكوادور، هايتي، وهندوراس وغيرها، فإن ذلك لا يكشف عن حقيقة الأوضاع في المنطقة بشكل كامل، وذلك لأن الاحتجاجات الشعبية طالت حتى أكثر دول أمريكا اللاتينية استقرارًا.
والمثال البارز على ذلك، هو تشيلي التي تشهد منذ 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 سلسلة من المظاهرات الحاشدة. وتسببت المظاهرات التي تشهدها تشيلي في صدمة كبيرة للعديد من الخبراء والمتخصصين لسببين أساسيين هما:
1- مثلت تشيلي، على مدار عقود طويلة، نموذج اقتصادي واجتماعي وسياسي ناجح: وذلك وسط إقليم جغرافي يعاني من الاضطرابات السياسية والاجتماعية، غير أن هذا الاستقرار قد أخفى العديد من المشكلات الاجتماعية، وفي مقدمتها: ارتفاع معدل التفاوت الاجتماعي، وذلك على الرغم من نموها الاقتصادي المذهل، ونجاحها الكبير في الحد من الفقر، حيث كشفت بيانات منظمة الأمم المتحدة لعام 2017 عن أن 1% من السكان يسيطرون على نحو 33% من ثروة البلاد.
2- انتشار أعمال العنف والشغب والنهب في العديد من المدن: وتدخل الجيش في المظاهرات ونزوله للشارع لاستعادة الأمن والنظام، وهو ما أسفر عن سقوط أكثر من 20 قتيلًا ومئات المصابين، الأمر الذي قدم صورة مغايرة تمامًا لتشيلي المستقرة، خاصة مع إعلان رئيس البلاد سبستيان بنييرا أن البلاد "في حالة حرب"، وهو الخطاب الذي أثار ذكريات الديكتاتورية العسكرية التي حكمت البلاد لمدة 17 عامًا.
دور الأطراف الخارجية
مع التسليم بأن الأزمات التي تشهدها العديد من دول أمريكا اللاتينية في الوقت الراهن، لها جذور داخلية بالأساس، فهناك تبادل للاتهامات بين أطراف داخلية وخارجية، بالمسؤولية عن تفاقم حالة عدم الاستقرار المصاحبة للمظاهرات، وذلك على النحو التالي:
1- الحكومات اليمينية: شجب الرئيسان الإكوادوري والتشيلي الدور المزعوم للأنظمة الاستبدادية في فنزويلا وكوبا، في التحريض على الاحتجاجات في بلديهما، وأيدتهما في ذلك منظمة الدول الأمريكية (دولية مقرها واشنطن). ووجه رئيس الشؤون الأمريكية اللاتينية في وزارة الخارجية الأمريكية، مايكل كوزاك، اتهامًا لروسيا بإشعال المظاهرات في الإكوادور وتشيلي.
2- الحكومات اليسارية: زعمت بعض الحكومات اليسارية أن هناك أطرافا دولية تقف وراء الاحتجاجات. ومن ذلك "إيفو موراليس"، في بوليفيا، الذي اتهم الإمبرياليين والرأسماليين بالتخطيط لتنفيذ انقلاب ضده. وعقب إعلانه الاستقالة، انتقد بعض حلفاء موراليس اليساريين في أمريكا اللاتينية تطورات الأحداث باعتبارها "انقلابا"، بما في ذلك الرئيس الفنزويلي "نيكولاس مادورو، والرئيس الأرجنتيني المنتخب "البرتو فرنانديز"، والرئيس الكوبي "ميغيل دياز كانيل".
وقال وزير الشؤون الخارجية المكسيكي، "مارسيلو إبرارد"، إنه سيتم منح اللجوء السياسي لموراليس وفقًا "لتقاليد اللجوء وعدم التدخل" في البلاد، إذا طلب موراليس ذلك.
دلالات التطورات الراهنة
كانت مظاهرات أمريكا اللاتينية، وما ارتبط بها من نزول الملايين للشوارع، احتجاجًا على صعوبة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كاشفة عن تطورات جوهرية داخل دول المنطقة، وذلك على النحو التالي:
1- تراجع ثقة المواطنين: تكشف التطورات الراهنة في أمريكا اللاتينية عن أن كل بلد يمر بالدراما الخاصة به. ولكن من الواضح أن حكومات دول أمريكا اللاتينية تواجه حالة من الاستياء الشعبي المتزايد والتراجع الحاد في ثقة الجمهور بالحكومات والمؤسسات.
ما يجعل من الأحداث الأخيرة أكثر من مجرد أعراض للتدهور الاقتصادي وثورة التوقعات المتزايدة، ولكن هناك قضية أوسع تتعلق بعدم ثقة المواطنين، وفي بعض الحالات، الرفض الصريح للطبقة السياسية. ووفقًا لمشروع الرأي العام في أمريكا اللاتينية التابع لجامعة فاندربيلت، يعتقد أكثر من 80% من المواطنين في جميع أنحاء المنطقة أن نصف السياسيين، على الأقل، فاسدون.
2- تفاقم أوضاع عدم الاستقرار: كانت النتيجة المباشرة للأوضاع السياسية والاقتصادية المتدهورة في بعض دول أمريكا اللاتينية هي تصعيد الاحتجاجات وردود الفعل القمعية، وتحويل المظاهرات السلمية إلى صراعات ضخمة وعنيفة. ومع ما يرتبط بذلك من ارتفاع سقف مطالب المحتجين إلى ما هو أبعد من السبب المباشر والرئيس للاحتجاج، فبينما بدأت المظاهرات في تشيلي احتجاجًا على رفع رسوم تذاكر المترو، سرعان ما ارتفع سقف مطالب المحتجين إلى المطالبة بإقالة الرئيس "ساباستيان بينيرا"، من منصبه، وتعديل دستور البلاد.
والشيء نفسه في بوليفيا التي اندلعت فيها المظاهرات في البداية اعتراضًا على نتائج الانتخابات الرئاسية التي أسفرت عن فوز اليساري "إيفو موراليس"، لكن انتهى بها الحال للمطالبة برحيل موراليس، وهو ما حدث بالفعل عقب تقديمه الاستقالة في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.
3- قوة حركة الاحتجاج الشعبي: تكشف المظاهرات الحاشدة في العديد من دول القارة اللاتينية، وما ارتبط بها من إصرار المحتجين على تحقيق مطالبهم، عن قوة حركة الاحتجاج الشعبي. وعلى الرغم من أن بعض المظاهرات مثلما الحال في تشيلي كانت بلا قيادة واضحة، فقد قادت المعارضة اليمينية الاحتجاجات الشعبية في بوليفيا، كما كانت جماعات السكان الأصليين هم المحرك الرئيسي للاحتجاج في الإكوادور، وقاد العمال والطلاب الاحتجاجات في كل من كولومبيا والبرازيل، كما يشارك رجال الدين في المظاهرات التي تشهدها هايتي.
وهو الأمر الذي يدل على مشاركة فاعلة لجميع المواطنين بمختلف انتماءاتهم، حتى إن المظاهرات في تشيلي قد امتدت مؤخرًا إلى بعض الأحياء الغنية الراقية، وذلك للمرة الأولى منذ اندلاعها. وهو ما يؤكد مرة أخرى على أن المظاهرات لا تحركها المطالب الاقتصادية والاجتماعية فحسب.
- أكتوبر الثائر في أمريكا اللاتينية.. حمم غضب تعصف بالتقشف والتزوير
- دول أمريكا اللاتينية ترفض استخدام القوة ضد فنزويلا
مآلات الأوضاع
يمكن أن يؤدي تسارع وتيرة الاحتجاجات في أمريكا اللاتينية إلى بعض التطورات المهمة في المستقبل، من أبرزها:
1- مزيد من الغموض وعدم اليقين السياسي: فرضت المظاهرات التي تشهدها بعض دول أمريكا اللاتينية ضغوطًا كبيرة على مختلف الحكومات، وهو الأمر الذي يعني أن قادة أمريكا اللاتينية عبر مختلف الطيف السياسي يجدون أنفسهم في مأزق في الوقت الراهن.
ورغم عودة اليسار إلى السلطة في المكسيك والأرجنتين عبر صناديق الاقتراع، وإطلاق سراح أيقونة اليسار البرازيلي الرئيس الأسبق "لولا دا سيلفا" من السجن، في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، فلا يزال تيار اليسار يواجه أزمة حادة.
ومن المرجح أن يؤدي رحيل موراليس في بوليفيا إلى تعزيز الضغوط المفروضة على الحكومات اليسارية في المنطقة، وفي مقدمتها حكومة الرئيس الفنزويلي "نيكولاس مادورو". وفي الوقت نفسه، تعاني الحكومات اليمينية من تحديات مماثلة، وذلك في البرازيل، بيرو، كولومبيا، إضافة إلى تشيلي. وجميعها أمور تفرض حالة من عدم اليقين والغموض السياسي بالنسبة لمستقبل دول أمريكا اللاتينية.
2- تدهور الأوضاع الاقتصادية: تندلع الأزمات السياسية في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية، ما يضاعف من الصعوبات الاقتصادية في منطقة تعاني بالفعل من تفاقم مشكلة الهجرة ومن أزمة اقتصادية حادة، خاصة مع توقعات صندوق النقد الدولي بتراجع معدل النمو الاقتصادي لأمريكا اللاتينية بنسبة 0.6% لعام 2019، منخفضًا عن توقعات النمو التي أعلنها الصندوق في أبريل/نيسان 2019، والتي بلغت 1.4%.
وعلى الرغم من شرعية مطالب المحتجين؛ فإنه لا يمكن تحقيقها بين يوم وليلة، كما أن الوفاء بها يتطلب تكلفة اقتصادية باهظة، وهو ما يمكن أن يزيد من صعوبة الأوضاع الاقتصادية في المنطقة.
3- احتمال عودة الدور السياسي للجيش: أدت مجموعة من التطورات في أمريكا اللاتينية إلى تجدد احتمالات عودة الجيش لممارسة دور في الحياة السياسية، وكان أولها وصول الرئيس اليميني "جايير بولسونارو" إلى السلطة في البرازيل، الذي كان ضابطا سابقا بالجيش.
كما تضم الحكومة التي شكلها أكبر عدد من العسكريين السابقين منذ عودة الديمقراطية إلى البلاد عام 1985، كما كانت المطالب المتزايدة لأداء الجيش دورا أكبر في التصدي لعصابات الجريمة المنظمة في أوروجواي وكذلك البرازيل شكلا آخر من أشكال دعوة الجيش للتدخل.
ومن الأمثلة الأحدث على ذلك، قيام الرئيس التشيلي بتسليم الجيش مهام استعادة الأمن والنظام في البلاد عقب اندلاع أعمال عنف وتدمير خلال الاحتجاجات التي شهدتها البلاد، وما ارتبط بذلك من توجيه الاتهامات لعدد من أفراد الجيش بقتل المتظاهرين.
وليس ببعيد انشقاق عناصر من الشرطة والجيش في بوليفيا وإعلانهم الانحياز إلى مطالب الشعب، إلى جانب دعوة قائد الجيش البوليفي، الرئيس إلى التنحي، وهو ما دفع موراليس إلى تخليه عن منصبه.
وفي ضوء ما سبق يمكن القول إن الأوضاع في أمريكا اللاتينية مرشحة للتصعيد، ويمكن أن تمتد المظاهرات إلى دول أخرى في المنطقة، وهو ما سيؤدي إلى مزيد من التدهور الاقتصادي وعدم الاستقرار السياسي.