بات اقتراب حريق غزة من لبنان واحتمال أن تتحوَّل مساندة «حزب الله» لـ«حماس» من ميني حرب حدودية إلى حرب تطال لبنان بأكمله، أمراً أكثر واقعية مع تمدد وتيرة التصعيد من الجنوب إلى البقاعين الغربي والشمالي.
كما في كل هزة أمنية تعصف بلبنان، يعيد خطر تمدد الحريق هذا طرح إشكالية قديمة - جديدة بشأن قدرة لبنان أن يكون بمنأى عن صراعات المنطقة السياسية والعسكرية، وأن يحكم نفسه بنفسه. السؤال أصبح ملحاً في هذه المرحلة مع وجود لبنان في عين عاصفة حرب إسرائيل والغرب بعامة ضد «حماس» ومحور إيران وحلفائها.
تختلف تداعيات هذه الحرب على لبنان عما سبقها لأسباب عدة، أبرزها أنها حرب إقليمية - دولية والمنطقة منخرطة فيها بشكل أو بآخر، ولبنان اليوم في قلب محور إيران الممانع بفعل دور وهيمنة «حزب الله». مع تبني الحزب وراعيته إيران مبدأ وحدة الساحات، تحوّل البلد من ساحة لتصفية النزاعات الإقليمية إلى لاعب رئيس فيها. السبب الثاني هو التجاذب الداخلي وبخاصة بشأن انخراط «حزب الله» فيها من الباب العريض، من دون سبب لبناني يبرر التكلفة الباهظة التي قد ترتبها الحرب الشاملة إذا وقعت.
منذ نشأة لبنان في بداية القرن الماضي، تؤكد كل الوقائع التاريخية أن شؤون وشجون المنطقة تترك آثارها على الداخل اللبناني. بعد سنوات قليلة من الاستقلال، واجه البلد الصغير اللجوء الفلسطيني إثر حرب 1948 ونشأة دولة إسرائيل، ما أدى لاحقاً إلى انخراط لبنان رغماً عن إرادة غالبية اللبنانيين يومها، وخصوصاً المسيحيين وغالبية القادة الشيعة التقليديين، إلى مواجهة مع إسرائيل.
الحدث الثاني الذي ترك ندوباً في الذاكرة هو ما سمي بثورة 1958 جراء المد الناصري العروبي على مستوى العالم العربي. دخل لبنان في سياسة المحاور، فظهرت الخلافات الكامنة بينهم، وأسفرت عن نزاع مسلح انتهى بشعار لا غالب ولا مغلوب وبتسوية أميركية - مصرية منحت مصر الناصرية دوراً متميزاً امتد لسنوات، على حساب التيار المؤيد لرئيس الجمهورية آنذاك كميل شمعون.
الحدث الثالث هو توقيع اتفاقية القاهرة بين لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية سنة 1969، التي منحت المنظمات الفلسطينية المسلحة حرية العمل الفدائي من مناطق في جنوب لبنان عرفت بمسمى فتح لاند، وحظي الفلسطينيون بسطوة ونفوذ سياسي وأمني وبسطوا سيطرتهم على مناطق في بيروت أطلق عليها تسمية دولة الفاكهاني ويحكمها ياسر عرفات. شكل ذلك الشرارة المستجدة للخلافات الداخلية مع اصطفاف غالبية إسلامية إلى جانب الفلسطينيين.
الحدث الرابع كان اندلاع الحرب الأهلية سنة 1975 جراء استشراء التمدد الفلسطيني العسكري والاحتكاكات مع ميليشيات مسيحية مسلحة، وأحياناً مع الجيش اللبناني. الحرب الأهلية إلى امتدت نحو 15 سنة كانت نزاعاً أهلياً عنيفاً ودامياً، لكنها ترجمت أيضاً على أرض لبنان الخلافات العربية - العربية، والعربية - الإسرائيلية. بعد اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، سعت سوريا إلى إحكام سيطرتها على لبنان، وحصل لها ذلك بعد أن تفردت قواتها بالبقاء فيه، إثر سحب الدول المشاركة في قوات الردع العربية قواتها تدريجياً. تفرد النظام السوري في حكم لبنان ورسم سياساته وفق مصالحه حتى عام 2005، عندما خرجت قواته من البلاد إثر اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري. بدأ حينها الزمن الإيراني في لبنان، وتمكّن «حزب الله» عبر سلسلة من الانقلابات من إحكام سيطرته على مفاصل الدولة.
كل هذه الأزمات واكبتها عوامل وتدخلات خارجية سافرة لعبت على النزاعات الأهلية، وأثبتت عدم مناعة لبنان ضدها وعجزه حتى اليوم عن حكم نفسه بنفسه. فهل تهالك الدولة هو فقط بسبب الخارج ووجود لبنان في وسط منطقة ولادة أزمات وحروب تتسلل إليه؟ للخارج حصة وافرة، لكن لا يمكننا إغفال العوامل الداخلية، بدءاً من الأسس الدستورية التي قام عليها البلد مثل العيش المشترك والمحاصصة بين الطوائف، وصولاً إلى الأنماط الثقافية - الاجتماعية التي كرّست صورة اللبنانيين مثل شعب يتأقلم مع كل الإعوجاجات والانحرافات إلى حد التماهي مع الفساد والتهرّب من المحاسبة واعتماد نهج الترقيع في حل كل أزماته.
الإشكالية الكبرى تبقى فيما عَدّه لبنان، ولا يزال، سبب ثرائه وتميّزه عن محيطه وهو التعددية الدينية والثقافية التي جعلت اللبنانيين يصدقون مقولة لبنان الجسر بين الشرق والغرب، وجعلت من بيروت مدينة «كوزموبوليت». هذه التعددية نفسها ولأنها غير مؤطرة مؤسسياً، لعبت دوراً كبيراً في انعدام المواطنة، فلبنان الجسر بقي جسراً معلقاً في الهواء ولم يرس لا على برّ الغرب، ولا على برّ الشرق، ولا حتى على برّ أرضه. هزال المواطنة سبب لضعف الوطن، وإذا ضعف الوطن انتفت الدولة ومعها الحوكمة، لذلك حتى في أوج مراحل الاستقرار والازدهار، وهي استثناء في تاريخ هذا البلد، لم تكن الدولة اللبنانية يوماً قادرة على الحكم وإدارة التنوع والتعدد الذي يتغنى به اللبنانيون.
هذه الأسباب - العوامل كلها جاذبة للتوغلات الخارجية التي بدورها، لم تتح الوقت الكافي لاختبار ما يسمى التجربة اللبنانية ودرة تاجها كانت بيروت. الداخل والخارج تقاطعا على تخريب بيروت وتكسيرها لفرادتها وانفتاحها، الذي أصاب بيروت وأصاب الوطن برمته.
اليوم الحال أصعب وأخطر؛ لأن حجة وجود القوات الأجنبية من فلسطينية أو سورية أو إسرائيلية سقطت منذ سنة 2005، وتهاوت مقولة إن خروج القوات الأجنبية ينهي أزمات لبنان، رغم الوجود الإيراني الفاقع عبر «حزب الله».
مخارج الأزمة صارت أكثر تعقيداً وتشابكاً، والرهان على التسوية الإقليمية الكبرى مهما كانت متوازنة لن ينعكس كما نتمنى على التسوية الداخلية، بفعل حجم المتغيّرات في الداخل والوقائع على الأرض وتشظي النسيج الاجتماعي والتفكك الحاصل على المستويات كافة. الأخطر أن القناعة بلبنان واحد موحد انهارت لدى شرائح واسعة من اللبنانيين من كل الطوائف، وبخاصة عند الطائفة المارونية التي تعدّ أنها وراء قيام لبنان الحديث.
قد ينقذ تقاطع المصالح الإسرائيلية - الإيرانية لبنان من حرب مدمرة، لكن إصلاح أحواله الداخلية يبقى بحاجة إلى معجزة.
نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة