لبنان ينكأ جرح المرفأ بأزمة قضائية.. استئناف "المسكوت عنه"
قنبلة مدوية فجرها المحقق العدلي بانفجار مرفأ بيروت بإعلانه استئناف التحقيقات في شظايا تطارد أكثر من جبهة سياسية وقضائية وأمنية بلبنان.
عودة تأتي بعد نحو 13 شهرا من تعليق التحقيقات على خلفية "دعاوى رد" رفعها عدد من السياسيين المدعى عليهم من نواب حاليين ووزراء سابقين، تكشف مجددا حجم الانقسام العمودي الذي يشق القضاء اللبناني بفعل خضوع قسم كبير منه لسطوة الساسة.
وعلى غرار سابقاتها، يمضي استئناف القاضي طارق البيطار للتحقيقات على ألغام تزرعها قوى لبنانية تتحكم بمفاصل الدولة، وتدفع نحو تعطيل يعتم على الوقائع ويدفع نحو الإفلات من العقاب، خصوصا أن من بين المدعى عليهم أسماء بارزة من حزب الله وأخرى مقربة من الرئيس السابق ميشال عون.
فإلى جانب القضاة، ومن بين الأشخاص الثمانية المدعى عليهم، يبرز اسم المدير العام للأمن العام عباس إبراهيم الذي تربطه علاقة قوية بحزب الله، ومدير جهاز أمن الدولة طوني صليبا المقرب من عون.
وسبق أن ادعى بيطار، في 2021، على رئيس الحكومة السابق حسان دياب، وحينها طلب رفع الحصانة عن نواب، بينهم وزيرا الأشغال السابقان يوسف فنيانوس وغازي زعيتر، ووزير المالية السابق علي حسن خليل.
لكن البرلمان السابق امتنع عن رفع الحصانة عن نواب شغلوا مناصب وزارية، ما حال دون استجوابهم، فيما رفضت وزارة الداخلية منح بيطار الإذن لاستجواب مسؤولين أمنيين تحت سلطتهم، وامتنعت قوى الأمن عن تنفيذ مذكرات توقيف، ليجد القاضي نفسه مكبلا بالضغوط من كل جانب.
إجراء غير مسبوق
في إجراء غير مسبوق رفضته النيابة العامة التمييزية، أمس الثلاثاء، ادعى البيطار على 4 قضاة بينهم النائب العام التمييزي، في خطوات متضاربة تنذر بدخول لبنان أتون أزمة قضائية وسط ضغوط سياسية عرقلت التحقيق منذ انطلاقه.
أزمة تعود للأفق باستئناف التحقيقات من قبل القاضي الذي تحاول قوى لبنانية حصاره منذ أكثر من عام بعشرات الدعاوى المقدمة ضده والمطالبة بعزله.
وحدد البيطار، أمس الثلاثاء، مواعيد لاستجواب 13 شخصاً مدعى عليهم، على أن يحدث ذلك في الفترة الممتدة بين 6 فبراير/شباط المقبل و22 من الشهر ذاته، في إطار دعاوى حق عام "بجرائم القتل والإيذاء والإحراق والتخريب معطوفة جميعها على القصد الاحتمالي".
ولا توجد حتى الآن تفاصيل محددة حول المآخذ على كل من المدعى عليهم، فيما يأتي تحديد مواعيد الاستجواب غداة ادعائه على 8 أشخاص، بينهم النائب العام التمييزي غسان عويدات، إضافة إلى ثلاثة قضاة آخرين.
ويعتبر الإجراء غير مسبوق في تاريخ لبنان، البلد الذي غالبا ما تحول فيه التدخلات السياسية دون تحقيق العدالة خصوصا حين يتعلق الأمر بأسماء بارزة.
غير أن عويدات لم يتأخر كثيرا في الرد على بيطار، وأعلن الثلاثاء رفض كافة قراراته، ووجه كتابا إلى "المحقق العدلي المكفوفة يده"، وفق تعبيره، اطلعت وكالة فرانس برس على محتواه، وجاء فيه "نؤكد أن يدكم مكفوفة بحكم القانون ولم يصدر لغايته أي قرار بقبول أو برفض ردكم أو نقل أو عدم نقل الدعوى من أمامكم".
وعويدات -وفق مصادر قضائية لبنانية- أشرف في 2019 على تحقيقات أولية أجراها جهاز أمن الدولة حول وجود ثغرات في العنبر رقم 12 حيث كانت تخزن شحنة نيترات الأمونيوم.
تعطيل التحقيقات
قُتل أكثر من 215 شخصا وأصيب 6500 في انفجار وقع في 4 أغسطس/آب 2020 بمرفأ بيروت، وعزته السلطات إلى تخزين كميات ضخمة من نيترات الأمونيوم دون إجراءات وقاية، وتبين لاحقاً أن مسؤولين على مستويات عدة كانوا على دراية بمخاطر تخزين المادة ولم يحركوا ساكنا.
ولأن حزب الله كان من القوى المهيمنة على مفاصل الحكم، كان من الطبيعي أن تصطدم التحقيقات بتعطيلات من جانبه لدرء مسؤوليته في الكارثة.
ولذلك، واجه البيطار -ولا يزال- تدخلات سياسية عرقلت مهمته، مع اعتراض قوى سياسية، على أدائه واتهامه بـ"تسييس" الملف، وصولا إلى المطالبة بتنحيه، وتم تعليق التحقيق أربع مرات آخرها في ديسمبر/ كانون الأول 2021.
لكن ورغم ذلك، يحظى بيطار بتأييد قسم واسع من اللبنانيين، خصوصا من ذوي الضحايا ممن يرون فيه قاضيا نزيها لم يستسلم للضغوط السياسية.
وبحسب مصدر قضائي تحدث لوكالة فرانس برس، يعتزم بيطار الاستمرار في عمله رغم رفض المحكمة التمييزية بناء على مطالعة قانونية قام بها، وأعلن على أساسها قراره استئناف التحقيقات برغم الدعاوى المرفوعة ضده.
ويثير الأمر جدلا قانونيا وسياسيا واسعا، في وقت تفيد فيه المطالعة القانونية بعدم وجود نص قانوني يتيح كفّ يد المحقق العدلي عن عمله، كما تمكنه من أن يدعي على جميع الأشخاص من دون طلب الإذن من أي جهة.
وفي حال رفض المُدعى عليهم المثول أمامه، قد يلجأ بيطار إلى إصدار مذكرات توقيف بحقهم، بحسب المصدر نفسه، ما ينذر بدخول لبنان في أزمة قضائية قد يركبها عدد من السياسيين لتمديد التعطيل.
سيناريو يتفرع ليصب في ذات النهاية المخيفة وهو إضافة الزيت على نار لبنان التي لم تنطفئ منذ الانفجار، بل أججتها أزمات متتالية توثق لواحدة من أصعب محطات بلاد الرز عبر التاريخ.
aXA6IDMuMTM5LjIzOS4xNTcg جزيرة ام اند امز