باختصار غير مخل نحن أمام سيناريو خطير جدا، ويستدعي أصوات الحرب الضروس في حوض البحر الأبيض المتوسط دون أدنى شك
خلال شهر سبتمبر/أيلول الماضي نشر موقع الرئاسة التركية صورة للسلطان المنحول رجب طيب أردوغان وخلفه خريطة تبين ما أطلقت عليه أنقرة "الوطن الأزرق"، وفيها تتوسع تركيا لتشمل جزءا من بحر ايجه ومجموعة من الجزر اليونانية.
يهدد الاتفاق التركي السراجي -إن جاز التعبير- أول ما يهدد الليبيين أنفسهم، وهذا ما أشار إليه البيان؛ إذ اعتبره انتهاكا صارخا للأمن والسيادة الليبية، واعتداء كاملا على صلاحيات مجلس النواب المنتخب من الشعب الليبي، صاحب الحق الأصيل والوحيد في إقرار والتصديق على المعاهدات والاتفاقيات الدوليةالصورة التي نحن بصددها التقطت خلال لقاء لطلاب جامعة الدفاع التركية مع أردوغان، الذي وقع يومها على وثائق كتب عليها الوطن الأزرق، وفي الخريطة المثيرة للجدل والتي تعكس ما يدور في عقل أردوغان عطفا على العواصف العاتية القادمة في المنطقة من جراء جنون السلطان التركي الأبوكريفي، نجد تمددا للحدود البحرية لتركيا لنحو 462 ألف كيلومتر، لتشمل الجزء الشرقي بكامله من بحر ايجه، وكذلك جزر ليمنوس، ورودس وثيوس، وهي جزء لا يتجزأ من اليونان.
هل من رابط بين هذه الخريطة والاتفاق عديم الفاعلية الذي تم الإعلان عنه قبل ساعات بين أردوغان وفايز السراج رئيس حكومة الوفاق الليبية التابعة لتركيا أيديولوجيا، والتي تدور في فلكها إرهابيا؟
قبل الحديث عن ذلك الاتفاق المنزوع القيمة والتأثير ينبغي علينا الإشارة إلى أن أنقرة كانت ولا تزال الداعم الأبرز لحكومة السراج، وليته كان دعما في طريق إنجاح الدولة الليبية أو انتشالها من وهدة الصراع الأهلي الذي تعيشه منذ سنوات طوال، وإنما هو دعمها بالإرهابيين والأسلحة المتقدمة كطائرات الدرونز؛ حيث أقامت هناك غرفة للتحكم بها، قبل أن تدمرها قوات الجيش الليبي بقيادة قائد الجيش الليبي الوطني المشير خليفة حفتر.
ليس سرا يقال إن مياه البحر الأبيض المتوسط وطوال أعوام شهدت ضربات جوية لسفن وقطع بحرية تحمل أسلحة مهربة من أنقرة للسراج والوفاق، تلك الجماعة التي تضم عددا من المسلحين الموضوعين على قوائم الإرهاب الدولية، وتخوض معركة أمام الجيش الوطني الليبي على حدود العاصمة الليبية حاليا.
أما الاتفاقية موضوع الجدل فهي عبارة عن مذكرة تفاهم بحرية وأمنية بين حكومة السراج وأنقرة، ما الذي تعنيه هذه الكلمات التي تبدو مبهمة بصورة أو أخرى؟
باختصار غير مخل.. نحن أمام سيناريو خطير جدا، ويستدعي أصوات الحرب الضروس في حوض البحر الأبيض المتوسط دون أدنى شك؛ ذلك أنه بداية يجعل تركيا قادرة على الوصول إلى مناطق واسعة في شرق المتوسط حول ليبيا تحديدا، وفي مياهها الإقليمية الغنية بموارد الطاقة لا سيما الغاز.
الأمر الآخر الذي لا يقل خطورة عن سابقه؛ هو أن توقيع اتفاق مناطق النفوذ البحري بين تركيا وليبيا تتبدى من ورائه نوايا خبيثة وسيئة موصولة بالمكايدة السياسية التي تقوم عليها تركيا ناحية مصر واليونان وقبرص؛ إذ يخيل إلى أردوغان أنه بذلك سيمنع توقيع اليونان من اتفاق منطقة اقتصادية خالصة مع قبرص اليونانية ومصر.
يستلفت الانتباه الموعد الذي تم فيه الإعلان عن هذا التوقيع؛ إذ يجيء في قلب الأزمة التي تعيشها حكومة السراج والإخفاقات العسكرية التي تتعرض لها، مع سيطرة الجيش الوطني في شرق وجنوب ليبيا، وسعيه الحاسم والحازم على القضاء على الإرهاب والإرهابيين في العاصمة طرابلس وتطهيرها من عملاء تركيا.
هنا يعن لنا التساؤل: هل هي زوبعة في فنجان غرضها الرئيسي رفع الضغط عن السراج ومليشيات تركيا في الداخل أم أن هناك نوايا تركية جنونية لتحويل حوض البحر الأبيض المتوسط إلى ميدان معارك قادمة؟
الجواب لا يوفر في واقع الحال الإشارة إلى الرسالة غير العقلانية وغير القانونية التي أرسلتها تركيا إلى الأمم المتحدة في الثالث عشر من شهر نوفمبر/تشرين الثاني، وتزعم فيها أن لتركيا الحق في مناطق بحرية جنوب جزيرة رودس اليونانية، الأمر الذي يعني تجاهلا تاما لوجود جزيرة يونانية في جنوب غرب ايجه وهي "دوديكانيسي" بجانب جزيرة كريت، وهما جزيرتان تقعان بين تركيا وليبيا بالبحر الأبيض المتوسط.
ما الذي يبغيه أردوغان بالرسالة إلى الهيئة الأممية من جهة، واتفاقه مع السراج من ناحية أخرى؟
باختصار غير مخل يمكن القطع بأن هناك العديد من الرسائل التي تبعثها تركيا في الوقت الحاضر للعديد من الأطراف، في المقدمة منها جيرانها الجغرافيون لا سيما قبرص، والتي انتهكت تركيا حدودها البحرية وبدأت التنقيب عن الغاز فيها، بدعوى أنها تأتي باتفاق مع جمهورية قبرص الشمالية التي لا يعترف بها سوى تركيا على الصعيد الدولي برمته.
لم يعر أردوغان أي انتباه لتحذيرات الاتحاد الأوروبي أو لعقوباته المتوقعة على أنقرة بسبب الاعتداء على دولة تتمتع بعضوية الجماعة الأوروبية، وها هو يتمادى ويضرب بأوروبا عرض الحائط، بل يهددها صباح مساء كل يوم بفتح بوابات الحدود للاجئين والمهاجرين، ومن طرف خفي يشير إلى إعادة تصدير الدواعش لأوروبا مرة جديدة.
هل يعني ذلك أن المعركة الأوروبية التركية قادمة لا محالة؟ ربما كانت التدريبات العسكرية التي قامت بها البحرية التركية في مارس الماضي وحملت اسم "الوطن الأزرق"، وأجرتها في بحر ايجه والمتوسط رسالة للأوروبيين ولبقية الكيانات الوطنية القوية في المنطقة.
والمؤكد أيضا أن أزمة أردوغان المتفاقمة وأطماعه وسعيه لنشر القلاقل في المنطقة لا تغيب عن أعين أحد، وربما هذا ما أدركه الليبيون أنفسهم، ولهذا صدر عن لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الليبي بيان يوضح مخاطر هذه المذكرة، التي تتيح لتركيا استخدام الأجواء الليبية وكذلك البرية، والدخول في المياه الإقليمية دون أخذ إذن من الجانب الليبي، وكذلك إنشاء قواعد عسكرية في ليبيا.
يهدد الاتفاق التركي السراجي إن جاز التعبير أول ما يهدد الليبيين أنفسهم، وهذا ما أشار إليه البيان؛ إذ اعتبره انتهاكا صارخا للأمن والسيادة الليبية واعتداء كاملا على صلاحيات مجلس النواب المنتخب من الشعب الليبي، صاحب الحق الأصيل والوحيد في إقرار والتصديق على المعاهدات والاتفاقيات الدولية.
يمكن للمرء القطع مرة وإلى أبعد حد ومد بأن الاتفاق التركي السراجي يعد مهددا للأمن القومي العربي، ويوضح مدى عمالة حكومة السراج لتركيا وبعدها عن أي توجهات وطنية ليبية خالصة، الـمر الذي يرقى إلى تهمة الخيانة العظمي.
لا يغيب عن ناظري القارئ أن هناك محاولات تركية لا تنقطع لإزعاج مصر، فهي التي أفشلت مشروع العثمانيين الجدد حين خرجت الملايين إلى الشوارع تطالب بإسقاط جماعة الإخوان الإرهابية، ولهذا تفتح تركيا أبوابها للفارين من العدالة المصرية من الإخوان المسلمين.
إضافة إلى ذلك فإن العالم يدرك أن مصر تتحول إلى مركز عالمي للطاقة، وهو الأمر الذي يسحب البساط مرة وإلى ما لا نهاية من تحت أرجل الأتراك، ويجعل دورهم في هذا السياق هامشيا.
تدرك مصر بعمق وجلاء مخططات أردوغان وشهوات قلبه الشريرة، وتتحضر للسيناريوهات التركية كافة، وقد اعتبرت الخارجية المصرية الاتفاق غير شرعي، وهي لغة دبلوماسية راقية ومهذبة ربما لا يفهمها أردوغان في الحال، وهناك من السيناريوهات المستقبلية ما يدعوه لإعادة ترتيب أوراقه من جديد.
الخلاصة.. الجنون الأردوغاني والخيانة السراجية لا يفيدان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة